القطار في الذاكرة الموصلية
بقلم .. واثق الغضنفري
القطار عربات حديدية متصلة ببعضها البعض تسحبها الماكنة التي تعمل بالوقود أو الكهرباء والقطار هيكل حديدي خال من الإحساس احتشدت داخله أناس بمشاكلها وطموحاتها وهمومها مودعين أو قادمين لبلدانهم, أما القطار لغة كما قال صاحب تاج العروس: ًَ ً َ ُ ٌ ِ ٍ
يقال (جاءت الإِبل قِطارا قِطارا بالكسر أي مَقطورةً والجمع قُطُرُ وقُطَرَاتُ والعامة تقول قِطَارات)
وفي لسان العرب:
(القِطار أن تَقطُرُ الإبل بعضها إلى بعض على نسقٍ واحد)
والقطار في الذاكرة الموصلية يمثل الوداع والحزن للفراق والفرح باللقاء بعودة الأحباب ويمثل شاهداً على ثقافة مدينتهم وأبنائهم وزوارها. وكذلك يذكرهم بالماضي الحزين وصولا إلى استخدامه في أغانيهم, كما يضرب مثلا في أحاديثهم وأملا لمستقبل وردي ينتظرونه. كيف جمع هذا الكائن الحديدي كل هذه الأشياء الرائعة وهو الذي جمعهم في عرباته أجسادا متعبة من ساعات السفر الطويلة؟ إذن لابد لي أن أوضح ما كتبته خطوة .. خطوة .. وكلمة .. كلمة .. مبتدأً حكايتي مع القطار الموصلي كما يلي:
علاقة الموصليين بقطارهم كعلاقة الدم والشرايين بالقلب -الموصليون الدم والشرايين سكة الحديد والقلب بغداد- فكلما طالت الشرايين لا بد لها أن توصل الدم للقلب وكلما طالت السكة وساعات السفر لا بد أن توصلهم لبغداد, والموصل بدون قطار صحراء جرداء بلا واحة ولا يمكن لأهلها أن يستغنوا عنه وعن منارة الحدباء وعن سور نينوى.
علاقة وشيجة ابتدأت عام 1940 عندما وصل أول قطار للموصل ومنذ ذلك اليوم صار الطرفان يتراشفان أنخاب العشق فعلى أرصفة محطاته ودعوا أولادهم الذاهبين للدراسة في جامعة بغداد أو البصرة وودعوهم أيضا أثناء ذهابهم لجبهات القتال أيام الحرب واستقبلوهم وبكوا على أرصفته فرحين بعد عودتهم من بغداد حاملين شهاداتهم الجامعية أو عودتهم سالمين من الحرب, واستقبلوا أيضا زوار الموصل النازلين من قطار المربد القادم من البصرة لزيارة موصلهم فهم يفخرون بهذا ويعتبرونه دليل على ثقافة وأصالة الموصل فتراهم يلقون قصائدهم وأغانيهم مرحبين بضيوف مدينتهم الحدباء أو تراهم يغنون للقطار الذاهب لمنطقة حمام العليل حيث توجد حمامات المياه المعدنية الحارة وكلية الزراعة والغابات آنذاك فغنينا ونحن صغاراً مع أهالينا في القطار فرحين ( صاح القطار قُومي أنزلي (كَوي)* أوصلنا حمام علي ) ونلفظها (حمام علي) وهذا ضمن موروث شعبي قصصي حيث يعتقد أهل الموصل أن الأمام علي كان زار هذه البلدة والحقيقة لا يوجد ما يؤيد ذلك في التاريخ كان القطار ولازال في أعين الموصليين (رسول الثقافة) القادمة من بغداد والمنبعثة من الموصل والقطار يذكرهم بالماضي الحزين عندما ساد في شوارع مدينتهم (الهرج والمرج) بسبب قطار السلام عام 1959 وكانت دوامة العنف والدم ..!!
والقطار أيضا هو الخير والرزق القادم والذاهب إلى بغداد فمهما كبرت المدن العراقية تبقى بغداد دار السلام الأم الحنون التي تجود لهم بخيراتها وعلومها وتجارتها وكيف لا وهي عاصمة الرشيد والدنيا.
أما الطريف في هذا الموضوع هو اعتياد أهل الموصل تشبيه حظ الفتاة التي تتأخر قسمتها بالزواج وتقترب من خريف العمر فيقولون همسا فيما بينهم (لقد فاتها القطار) بمعنى ضاعت عليها فرصة الزواج ولن يأت فارس أحلامها على حصانه الأبيض لتقدم عمرها, وبالمناسبة حتى المصريين يستخدمون هذا المصطلح كما سمعت هذا في أفلامهم والظاهر أن قطار العمر واحد مهما اختلفت البلدان أو سكك الحديد!!. وحين يغني الموصلي بألم وحزن لا بد أن يغني رائعة مظفر النواب (الريل وحمد) التي غناها ياس خضر فتراه يصيح في أعماق الليل (مرينا بيكم حمد وإحنا بقطار الليل) وكأن النواب أول من اكتشف غدر القطار للمحبين وهذه حقيقة لا بد أن ينتبه لها الدارسون لشعر النواب.
وإذا أراد الموصليون اختبار ذكاء أولادهم فما عليهم سوى ترديد هذه الحزورة التي توارثوها جيلاً بعد جيل:
كلمة من ثلاثة أحرف إذا حذفنا الحرف الأول تطير فما هي؟ فيجيب أولادنا بصوت واحد قِطار, والله لقد سألني أبي هذا السؤال وأنا طفل وسألته أنا لأولادي!! إني أتحدى أي موصلي في العالم عندما يسأل بماذا يذكره القطار؟ فسيجيبك على الفور يذكرني بالأفلام الهندية كون السينما الهندية استغلت القطار خير استغلال فكان في مشاهد العنف والحب والجوع والغنى والسلام بالإضافة إلى الحصان والمسدس (أبو بكرة) وطن من الأغاني الراقصة ولا ننسى مفاجئة نهاية الفلم عندما تتحول الحبيبة إلى أخت لحبيبها بعد اكتشافها لوشم العائلة على صدره أو قلادة ماما... ما نحن بهذا أفلام وهندية فتصور!!
ففي فترة السبعينات والثمانينات تباهت الموصل بوجود أكثر من 10 دور عرض سينما وثلاث مسارح أما الأن يا صاحبي:
فلا السينمات موجودة ولا المسارح مفتوحة ولا القطار يعمل وما عدنا نسمع صفيره الليلي الذي يذكرنا بموصلنا أيام زمان ولا مسارح ولا أفلام هندية لأنهما أغلقا جبراً!! وافتقدنا ماضينا الجميل الرائع واشتقنا للسفر إلى بغداد أُمنا وحبيبتنا, و لربما كل هذا بأخر مقطورة تحركت بقطار الليل الذاهب إلى بغداد قبل عام 2003 .
فمتى يارب يعود القطار إلى سكته ويعود رسول المحبة والسلام والثقافة ثانية؟
ومتى نذهب إلى دور السينما لنشاهد القطار هندياً كان أم عربيا؟
وآخر أُمنية لي قبل أن يغادر القطار محطات عمري هي السفر مع نفسي بعربة تمشي الهوينا على سكة الحديد وتهتز مخترقةً أعماق الليل متجها نحو الأمل بغداد وأغني لي:
(أنعل أبونو القطار وابو حركاتو أخذ محبوب القلب وخلاني بحسراتو)
(اوي اوي دلال)*
* كَوي: كلمة موصلية بمعنى لقد
* من الأغاني الشعبية الموصلية
واثق الغضنفري