نواصل معكم الجزء الثاني من صور و مذكرات الإمام الشهيد الصدر"قده" بقلم عائلته الشريفة , لنستلهم وأياكم الفيوضات الالهية , والدورس الربانية التى كان الإمام الشهيد يزرعها في عائلته ويربيهم عليها , فالإمام الشهيد وهب نفسه للإسلام المسلمين . كان يتمتع بذكاء و نبوغ غير عاديين في كل باب من ابواب العلم حيث كان يترجم كتب اللغة الانجليزية الى اللغة العربية , وهي كتب عميقة غامضة مثل الفلسفة والمنطق , فكان رضوان الله عليه يميز بين الترجمة الصحيحة و الخاطئة , ويقول مثلا يجب ان تكون الكلمة هكذا وبهذا الشكل وكثيرا من هذا , وعندما كانوا يرجعون الى الكتاب الاصلي ويترجمونه بشكل ادق يجدون ان كلام السيد صحيح وان تعبيره ادق . وكانت له طريقة في حل جدول الضرب قريب بشكل او باخر الى الطريقة الصينية ولكن تحل على الاصابع لا في العداد , و كان السيد رضوان الله عليه لا يميز احد على احد اخر او قومية على اخرى ولا ينقد او يعيب احد اطلاقاً.
كان السيد الشهيد منكبا على دروسه وكتاباته مثابرا على مباحثاته , وتنقل زوجته في هذا الصدد ان السيد قد مرض في ليلة كان عليه الذهاب الى بيت السيد الخوئي (قدس سره) للمباحثة فطلبت منه زوجته عدم الذهاب الى المباحثة لان حاله لا يسمح له بذلك وسوف يشتد مرضه حيث ان الجو كان باردا ايضا فقال لها السيد :
اعطني القران لاستخير و حين ناولته القران كانت اية الاسنخارة هي
﴿ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾"
[1] فقال:
السيد اذهب الان اولا اذهب ؟؟فاجايته : اذهب في امان الله وحفظه.
وينقل السيد كمال الحيدري في احد دروسه عن احد الطلبة اللذين عاصروا السيد الشهيد وكان معه في درس السيد الخوئي ان السيد الشهيد في الدرس الواحد يستوعب الدرس ويتقدم بمقدار ما نتقدمه نحن في شهر كامل.
اجمع كل من عاشر السيد على انه كان فريدا في اسلوب قيادته و تربيته للامة كما كان مميزا في اخلاقه وتواضعه وتعامله مع الاخرين فقد كانت الصفات و الخصائص التي يتمتع بها من ميزات الانبياء و الائمة (عليهم السلام) .
ينقل السيد محمود الخطيب وهو احد طلبة السيد المقربين له : كان السيد يحاور و بكل رحابة صدر و بشر كل من يلتقي منه او يأتيه سواء كان قاصدا السلام او الاستفسار عن مسألة , ومهما كان قدر السائل فانه ما كان ليفرق بين الصغير والكبير او المتعلم او غيره , بل كان يستمع اليهم جميعا ويهبهم الكثير من اهتمامه وتوجهه , كان قائدا حقيقيا للامة حيث يناقش الاحاديث الدينية والاجتماعية مع الجيل الناشئ ويرعاهم باهتمامه و ارشاداته .
واتذكر انه و في يوم من الايام دخل صبي مع والده واسمه ميثم "ابن الشهيد جواد الزبيدي"
وقال والده للشهيد: سيدنا لدى ابني سؤال "
فناداه السيد الشهيد :
الي يا ميثم ..(
وكان عمر ميثم بحسب ما اتذكره يتراوح بين الست و السبع سنوات) واجلسه الى جانبه
فقال له:
ما هو سؤالك؟
فقال ميثم بهدوء: سؤالي لماذ الله وافق على قتل الحسين عليه السلام؟"
فقال له السيد :
سؤالك جميل جدا ومعناه كبير وسوف اجيبك عنه.
وينقل احد الشيوخ "مهدي الحيدري" حادثة جمعته بالسيد وذلك ان ( مهدي ) عندما كان صغيرا وقد اجتمع مع رفاقه قرب حرم امير المؤمنين
لمراجعة دروسهم لدنو فترة الامتحانات قدم السيد الشهيد الى الحرم العلوي الطاهر لاجل صلاة "الفجر" فسأله عن موضوع معين, الا ان السيد اعتذر بلطف موضحا ان وقت الصلاة في اخره ولا استطيع البقاء معكم والاجابة على سؤالكم ، ولكنه في اليوم التالي اتى مبكرا وقال"
انا قد اتيت اليوم مبكرا لاجيب عن اسئلتكم ", فقام له الاولاد وفرشوا له معهم بساطا , فجلس عليه و حداثهم.
وينقل احد الفقهاء انه قد ألف كتابا عن كيفية تعليم الصلاة في 15 ورقة , وكان يبلغ من العمر11 عاما , وكان قد وجد ان افضل من يعلق على كتابه هذا هو الشهيد الصدر , فذهب اليه و كان الشهيد في الجامع الذي يعطي فيه درس الخارج , فاستقبله السيد بكل حفاوة , واخذ منه الكتاب بكل رحابة صدر , وبعد عدة ايام ارجع له الكتاب وقد صححه وعلق عليه , وقال اذا لم يطبع له ابوه الكتاب فانه هو سيطبعه له وعلى نفقته.
وبرغم ما بلغه من مقام ومنزلة الا انه كان متواضعا لا يقبل ان يمدحه او يطري عليه احد , لم يكن ليسمح ان تضاف لاسمه القاب او صفات بل يقول لطلبته وحتى اولاده "
اذا ارادوا ان يكتبوا اسمه فليكتبوا فقط : السيد محمد باقر الصدر بدون اي اضافات".
وتنقل الوالدة ان احد محبيه قد نظم الشعر في مدحه , وجاء ليقرأه في مجلس عزاء حضر فيه السيد , الا ان السيد رفض ذلك , وحاول الرجل عدة مرات الا ان السيد رفض ايضا فعدل الرجل عن قراءة تلك الابيات .
كما عثر احد تلامذته على حديث عن الرسول الاكرم ( ص) ورد فيه حال رجل يبقر العلم بقرا , وان اصحابه سوف يرون من الظلم و الاضطهاد الشيء الكثير , ويصفهم مثل الغيوم المتفرقة في فصل الخريف, ولم يبدي السيد رغبة في نشر هذه الرواية او التحقق فيها تواضعا منه.
كان الشهيد الصدر يعامل تلامذته بحنان الاب الشفوق , ويتفاعل معهم بكل شعوره واحاسيسه حيث كان يمضي خطاباته اليهم او رسائله بـ "
ابوكم " , ويقول احب ان يكون اولادي وابنائي راضيين عن ابيهم وعن ما قدم هذا الاب من اجلهم , وهكذا كان تعامله مع اولاده الذين من صلبه .
وينقل السيد محمود الخطيب : ان لغة التخاطب بينه وبين تلامذته كان لها طابع خاص و قد رأيته يودع احد تلامذته ايام الحكم الجائر والذي يعتمد على نفي المعارضين وهو يبكي بكاء شديدا ويقول "
عز علي فراقكم" .
و تضيف الوالدة الفاضلة ان السيد حينما يصل اليه خبر سيء او نبأ استشهاد او موت بخصوص احد اصحابه او طلبته كان يتأثر تأثرا شديدا ويبقى في هذه الحالة ايام معدودة و يظهر عليه شدة حزنه فلا يأكل الا لمما ولا ينام الا قليلا ,وقد يصل شدة تأثره وحزنه الى حد تضطرب معه صحته الشريفة فيصاب بارتفاع في ضغط الدم او الصداع المستمر , وفي احدى المرات بلغ به الامر الى شبه شلل نصفي حين بلوغه خبر استشهاد بعض اصحابه، و لشدة ما يكنه لهم ( اصدقائه و اصحابه ) من المحبة كان دائم الدعاء لهم كما كان ايضا يقوم بتفقد احوالهم و حثهم على ترك الدنيا والزهد بها والسعي والمثابرة على كسب العلوم وتحصيلها.
لقد نقش السيد الشهيد في قلوب تلامذته اروع واسمى المعاني و لم يكن رضوان الله عليه ليميز بين شخصين او يقدم احدهم على اخر او يفضل قومية على اخرى ولم يكن من اخلاقه ان ينقد او يعيب احد اطلاقا, كان متكاملا في كل جهاته .
كان الوالد غايه في الحب والتقدير لجهود منهم حوله , لا أذكر ابدا انه عاب احد, او ذكر احد بما يستنقص.. رغم كثره الانشغالات والمشاريع...و..الخ
لم يكن ينسى احسان احد ابدا , في الايام الاولى لزواجه من الوالده في لبنان قبل ذهابه للعراق جلسا يتحدثان قي مواضيع عده وقال لامي قيما قال "
ايا بنت العم خمسة اشخاص في حياتي انا احبهم وعليك ان تحبيهم امي واخي اسماعيل واختى بنت الهدى واخوك السيد موسى الصدر و عبد الحسين " ( وعبد الحسين هو رجل طيب كان يراعي السيد وهو صغير فجعله الوالد في صف امه وخوه).
- تعلقه بالامام الحسين وموالاته الحقة للائمة:
اقبلت مجموعة من المحبين للقاء الشهيد الصدر فحدثهم الحاج عباس_ بو قحطان_ وهو من المحبين والملتزمين بخدمة السيد الشهيد "قدس سره الشريف" عن الشهيد واوضح لهم " ما يراه من حاله وانه كالامام علي بن ابي طالب صفاتا وصبرا وايمانا وشجاعة و انا عاشرته وعرفته جيدا " وفي اثناء حديثه كان الشهيد في الطابق الثاني و سمع مقالة الحاج فصاح به "
لا تقل هذا يا حجي فاني لا ارضى وقد كررت لك رفضي لمثل هذه الاقوال عدة مرات."
اما في يوم عاشوراء فحال الشهيد تختلف حيث يتغير حاله و تتبدل ملامحه الى حزن شديد دامي وكان يحاول بقدر استطاعته ان يزور سيد الشهداء
في كربلاء فإذا ما شرع في زيارة عاشوراء يبكي الى ان تتبلل لحيته الشريفة ، واعتاد الشهيد مع عائلته ان لا يأكلوا شيئا في يوم عاشوراء الى بعد الظهر كان اكلهم في ذلك اليوم "الارز مع الماش" وهو ابسط انواع الطبخ وكذلك كان حالهم يوم وفاة الامام امير المؤمنين
و لم يكن ليستقبل احدا في ذلك اليوم.
و لتسهيل زيارة عاشوراء افتى بجواز اختصار اللعن والسلام مثلا " اللهم العنهم جميعا" بدل عن جميع اللعن " السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين " بدل عن جميع السلام لكي يكون اسهل على القراء ويستطيع الجميع قراءة الزيارة والاستمرار عليها , الا انه هو كان يرغب في قراءتها كاملة , فكان يزور زيارة عاشوراء المعروفة في يوم عاشوراء باكملها بدون اختصار .
وكان يحث الجميع على زيارة الاربعين والذهاب الى الحرم الحسيني المطهر مشيا على الاقدام و قد كان يتمنى الزيارة بهذه الكيفية , ولكن الظروف المحيطة به لم تسمح له ابدا , واراد السيد ان لا تؤثر الزيارة بهذا النحو على وضع الشيعة الامني والصحي فاستبدل عادتهم التي كانوا على وفقها يخرجون من النجف الاشرف وتستمر رحلتهم ثلاثة ايام تقريبا بطريقة اخرى توفر لهم السلامة , وهي ان يذهبوا مشيا الى قبيل الغروب ويرجعون الى بيتهم ليلا وفي اليوم الثاني يذهبون بالسيارة الى المكان الذي وصلوا اليه في اليوم السابق وهكذا.
زيارة امير المؤمنين : واما عيد الغدير عيد الله الاكبر فقد كان يهيئ قناني عطر صغيرة يعطيها لكل المهنئين , وينقل ذات يوم ان السيد كان بجوار الضريح العلوي في حرم امير المؤمنين
إذ دخل رجل وتوجه الى الضريح بكل لهفة وعيناه مليئة بالدموع , ووقف بقرب الضريح المطهر وبدا يدعوا باخلاص وحرارة , فرآه السيد و دعا الله وهو في مكانه ان يستجاب له دعائه ، فرأى هذا الرجل في الليل في منامه ان فاطمة الزهراء(ع ه) وفدت عليه وقالت له:
ان حاجتك سوف تتحقق لان ابني محمد باقر الصدر دعا لك " وفي الصباح توجه هذا الرجل الى السيد ونقل له الرؤيا فتبسم السيد وقال نعم لقد دعوت لك عندما رايتك في تلك الحالة.
ونقل احد الثقات وهو الحاج خضير لنا انه رأى السيد واقفاً في الصحن الشريف العلوي و هو ينظر الى القبة الشريفة في راحة كمن انقطع اتصاله بالعالم الخارجي , والابتسامة على شفتيه واستمر هذا الوضع لمدة من الزمن , فاحس حجي خضير بقلق على السيد فذهب اليه وسلّم , فالتفت السيد اليه وكانه كان في عالم اخر ثم قال له :"
لماذا يا حجي خضير قطعت علي ما كنت فيه ولو رأيت ما كنت أراه ما فعلت ذلك ".
و قد كان قد الزم نفسه بزيارة امير المؤمنين
بشكل يومي , بحيث ينقل الطيبين من خدم الحرم الشريف انهم و حتى بعد شهادته كانوا يرونه في الساعة المعهودة, كما كان يقيم ليالي الاربعاء مجلس عزاء عن اهل البيت (عليهم السلام) في بيته .
حالاته الروحية العجيبة اثناء الدعاء والزيارة:
ومما تنقله السيدة الوالدة من حالاته اثناء الدعاء والزيارة انه كان يقرا في اليوم العاشر من المحرم مقتل الامام الحسين لنفسه وبصوته الشجي والغريب انه كان يقراه بلسان دعاء .. اي بالطريقه التي يقرا فيها الدعاء تماما .. وما ان يبدا قرائة المقتل حتى تتغير احواله , ويبكي كما تبكى المراة الثاكل..حتى يصل الى حال نخشى عليه.
ونفس هذا الحال يحصل للسيد الشهيد عندما قراء دعاء عرفه ..حتى اني في بعض حالاته خشيت ان يصاب بنوبه قلبيه وهو يقرء دعاء عرفه فاقتربت منه ولمسته وحركته خشيه عليه وقد رايته في حال انقطاع كامل , هكذا كان حاله تمام وهو يقرا المقتل والدعاء بلحن واحد ونبره واحده . علاقته بالامام المهدي :
كنت اسمعه مرارا وتكرار يقرا دعاء الندبه , والذي كان يلفتني انه لا يقراه في ايام الجمع فقط , بل كان يقراه كلما كانت هناك مشكله وشده , يقرأه متضرعا متوسلا ,بحيث اصبح مرتكزا في ذهني عندما اسمعه يقرا دعاء الندبه ان له حاجه ملحه أو امراً مهما من امور المسلمين.
واخر مره رايته يقراه في غرفته في الطابق العلوي في بيتنا في النجف الاشرف في محله العماره الواقع قرب الصحن الحيدري الشريف والذي هدم البعث المحله كلها بعد استشهاده .
يتبع في الجزء التالي