عدد الرسائل : 1810 العمر : 67 تاريخ التسجيل : 31/12/2006
موضوع: صحائف موصلية من العهد العثماني الخميس 12 يونيو - 7:14
صحائف موصلية من العهد العثماني
ترجمة:يحيى صديق يحيى
حكومة الموصل آنذاك
توازي المؤسسات الرسمية الحاكمة في الموصل المؤسسات التي تحكم في اسطنبول. واعتبر حاكم المدينة الذي كان يحمل رتبة باشا ابرز شخصية هامة في المدينة ، فهو معين من قبل السلطان لتعزيز الحكم العثماني. وهو الرئيس التنفيذي الذي يشرف على الشبكة الإدارية الواسعة وتقع على عاتقه مسؤولية إعداد الميزانية التي تنامى رصيدها من قرابة أربعة ملايين قرشا في عام (1845- 1846) إلى أكثر من اثنين وعشرين قرشا عام(1892-1893). كان الوالي ممثلا للحكومة العثمانية المركزية في اسطنبول،كما شغل منصب المشرف العام على جميع رؤساء المناطق الإدارية(السناجق) الملحقة بالموصل. لم يكن الوالي مسؤولا أمام أهل المدينة، بل كان مسؤولا أيضا أمام الحكومة المركزية دون غيرها على غرار الأنظمة التي كانت سائدة في الإمبراطوريات الأخرى وفي فرنسا الحديثة، إذ أن الحكومة المركزية وحدها هي التي تقرر من الذي سوف يحكم الأقاليم، ولم يكن لعامة الشعب سوى القليل من المساهمة في اختيار حكومته المحلية.
استطاعت إحدى الأسر المحلية التي كانت على قدر من الثراء ومن طبقة التجار خلال القرن الثامن عشر أن تبسط سيطرتها وتجعل من نفسها عنصرا لاغنى عنه تمثل ذلك بمساعدتها للحكومة المركزية وتزويد جيشها بالمؤن إبان الحروب على الحدود العثمانية الشرقية. وشكل الجليليون وجها هاما من وجوه المدينة، وارتبط اسمهم بالعوائل البارزة الأخرى وعملوا على خدمة مصالح عائلتهم وبقية العوائل الأخرى من ذات الطبقة. وعلى الرغم من أن الحكام الجليليين كانوا يحكمون من مواقعهم ويحملون ألقابا منحهم إياها السلاطين العثمانيون تتواءم ومركزهم الاجتماعي، إلا انه أنيط بهم أيضا مهمة بناء مشاريع كبيرة،فتولوا بناء المدارس، الجوامع، الدكاكين، والخانات الكبيرة التي تتيح المبيت للتجار، وخزن بضائعهم، وإيواء حيواناتهم. لم تمثل المباني التي شيدوها طريقا لجني المال عن طريق الإيجارات التي تجبى إليهم، ولكنها مثلت شكلا من أشكال التعبير المعنوي عن التزامهم إزاء المدينة ومؤسساتها. وعلى الرغم من تبؤ عائلة الجليلي مركز الأولوية في المجتمع، إلا أن هناك الكثير من العوائل الأخرى البارزة في الموصل اشتركت في حكم الإقليم خلال تلك الحقبة من الحكم الذاتي المحلي، واستطاعوا أيضا أن يستثمروا ثرواتهم الكبيرة في البناء بصورة عامة، كبناء الجوامع، الخانات، الأسواق، الحمامات، والمدارس.
مابين عام (1700م-1834م) بنت عوائل الموصل الكبيرة ما لا يقل عن (390) دكانا جديدا. لقد عملت هذه الأسر على خلق دعم في المدينة عن طريق مساهماتهم في إحداث بنى تحتية جديدة.
عندما بدأت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر محاولة استعادة سيطرتها المركزية على أقاليمها الواسعة الانتشار، رأت في هؤلاء الحكام المحليين والنخب الحاكمة أنهم يمثلون تهديدا لمصالحها. ولما كانت الدولة العثمانية تتطلع إلى تعزيز سلطتها الإمبراطورية أخذت تسعى إلى تحييد النخب المحلية كالجليليين ومن هم من طبقتهم. كان الحكام الجدد الذين يتم تعيينهم يحصلون على سلطتهم وشرعيتهم من خلال تعيينهم الأولي من قبل السلطان العثماني على وجه التحديد، وليس عن طريق روابطهم مع أهل المدينةأورعايتهم لمصالح الحياة المدنية والاقتصاديات المحلية.
في عام 1834م عندما وجدت الحكومة العثمانية نفسها قادرة على إعادة تشكيل الحكم المباشر في الموصل، عين السلطان واليه الذي اختاره (محمد اينجه بيرقدار) الذي حكم الموصل حكما فرديا مدة أربعة سنوات. عمد محمد باشا إلى التلاعب بملكية الأراضي في الموصل، وعندما مات محمد باشا، كانت الدعاوى التي رفعت على ممتلكاته كثيرة جدا لدرجة أن الحكومة العثمانية تدخلت للفصل بشأنها. بعد وفاته وجدت السلطنة العثمانية نفسها أمام معضلة حقيقية، فمن جانب أنها كانت قلقة بشان عواقب ما سيؤول إليه وضع العائلة المحلية القوية التي غدت قوية تتأهب للسيطرة، وهو الأمر الذي دفع بالحكومة العثمانية إلى تعيين العديد من الولاة في تعاقب سريع لما تبقى من القرن. كان هؤلاء المعينون من الولاة يتوقعون البقاء في المدينة لفترة وجيزة قبل أن يتم إرسالهم إلى أماكن أخرى يمارسون فيها الحكم، وهو ما جعل من الصعوبة بمكان إرساء قاعدة عريضة للسلطة المحلية. وعلى الجانب الآخر واجهت الحكومة العثمانية المركزية مشكلات عديدة خلال هذه الأوضاع الجديدة التي برزت في ظل تعيين البعض من أولئك الولاة الجدد الذين تعاقبوا على حكم الموصل إبان القرن التاسع عشر: تمثل بالتخريب الذي تركه أولئك الولاة الغرباء والانفصال عن عامة الشعب. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومة العثمانية ومطالبتها باسترداد السيطرة على الموصل، إلا أن الكثير من عوائل الموصل البارزة احتفظت بنفوذها، وثروتها، وسلطتها. وكما يرى ألبرت حوراني فان الإصلاحات الوافدة إلى الأقاليم ساهمت واقعيا في تعزيز سلطة النخب المحلية البارزة. كان الولاة الجدد يشغلون مناصبهم لمدة وجيزة: والهدف هو انجاز مهماتهم المتمثلة بجمع الضرائب وتوفير الأمن، كانوا مستقلين في المنطقة على حساب أولئك الذين ينتفعون منهم. غير أن الولاة الذين تعاقبوا خاصة عندما لا يكون لدى الذين يشغلون المناصب معلومات كافية عن الوضع في المدينة، قد يمنحون الفرصة للعوائل الجديدة في أن يحوزوا قدرا من السلطة والثراء. أما الشخصيات الطامحة التي وجدت لها الفرصة في أن يعير المدراء الجدد سمعهم لها، فإنهم يكافئون لقاء المساعدات والنصائح التي يقدمونها لهم ليس فقط في حق الحصول على أراض أو ثروة فحسب، ولكن أيضا بالسلطة التي كانت تتاح لأي منهم جراء تقربه من الوالي.
وفي الوقت ذاته،أتاحت تقنيات الإتصالات الحديثة خاصة التلغراف منها المجال في التواصل وتبادل المعلومات. وبينما كانت كل من النخب الجديدة والقديمة تسعى لأن تشكل جماعة ضغط أوتكون من ضمن الحاشية لدى الوالي، كان المنافسون الناقمون يجدون الأذن الصاغية لدى الحكومة المركزية أو عملائها في اسطنبول عن طريق التلغراف. وعلى مدىالقرن كان تأثير هذين المسارين على عملية رفع الدعاوى والاتهامات مربكا ومشوشا على تعيينات الحكومة للولاة، فضلا عن ظهور قوى محلية عديدة ومتنوعة تتنافس فيما بينها للوصول إلى السلطة.
النخب التقليدية
أولى عوائل المدينة كما كانت هي عائلة الجليلي القوية. حيث برز منها الولاة على مدى عقود متتالية من الحكم الذاتي، فقد الجليليون مراكزهم الرسمية اثر إعادة المركزية العثمانية، لكن ذلك لم يطال أراضيهم وارتباطاتهم. الجليلي الأول البارز، عبد الجليل. عين ابنه الكبير إسماعيل واليا عام (1726م). ويبدو أن ظهور هذه العائلة ارتبط مباشرة بامتلاكها القدرة على إدارة تجارة محلية. وتستشهد دينا خوري بالأوامر الحكومية التي تظهر ذلك، فخلال الحروب العثمانية ضد نادر شاه أمرت الحكومة المركزية المسؤولين الحكوميين المحليين بتجهيز المؤون التي كان أولاد عبد الجليل يرسلونها إلى بغداد. وخلال شهرين تسلم المسؤولون المحليون أمرا بإعطاء المال إلى أولاد عبد الجليل، وكان على المتعهدين شراء المؤن للجيش وإرسالها بواسطة الطوافات عن طريق النهر إلى بغداد. ويبدو أن ثراء عائلة الجليلي جاء نتيجة تأثيرهم كونهم تجارا للحبوب ومقاولين. وبثرائهم تمكنوا من الوصول إلى مراكز القيادة في فيالق الجيش الإنكشاري، وأصبح لهم الحق في جمع بعض الضرائب وحيازة الأملاك في المدينة والريف، كتعبير من الحكومة بالامتنان لها جراء وقوفها معها في كسب الحرب، وتحالفاتها المستمرة معها للوصول إلى الموارد المحلية.
شغلت سبع عشرة شخصية من عائلة الجليلي منصب الوالي على مدى القرن للفترة مابين(1726-1834). كما شغلوا مناصب أخرى أيضا، ونجحوا في تكوين سلالة سياسية قوية حظيت بالقبول لدى الحكومة العثمانية المركزية. وعلى الرغم من أن الحكومة قررت كبح جماح العائلة وعينت آخرين لا يمتلكون قاعدة محلية للسلطة بدلا عنهم إلا أن عائلة الجليلي ظلت محتفظة بنفوذها ليس على نطاق الأوساط المحلية فحسب، بل على مستوى أجهزة الحكومة المركزية أيضا. وقد راعى البريطانيون في عام 1921بقاء سليمان الجليلي على رأس(العائلة الأولى في الموصل). ملك سليمان أراض واسعة، لكنه بقي بعيدا عن الدوائر السياسية أو مجال الأعمال.
في نطاق التنافس على احتلال الصدارة مع الجليلين، برزت عائلة العمري التي اكتسبت قوتها من زعامتها الدينية. جاء حضور العائلة الشديد في المدينة اثر مركزها الديني المميز. خلال عام 1572م مرت الموصل بسلسلة من الكوارث. أول أفراد العائلة في الموصل الذي ينحدر من الخليفة الثاني الزاهد عمر بن الخطاب، كان قد دعي للقدوم إلى المدينة لأن الوجهاء كانوا يتوسمون في حضوره حفظها من النكبات. وعلى شاكلة الجليلين، حاز العمريون ثروة تنوعت عقاراتها مابين المدينة والريف، كما كان لهم الحق في جمع بعض الضرائب.
وكشأن الجليلين، ظل العمريون محتفظين بنفوذهم حتى ما بعد نهاية حقبة العثمانيين. احتل سامي باشا منصبا مدنيا كما كان ضابطا في الجيش. خدم بوصفه ملحقا عسكريا في برلين كما كان عضوا في البرلمان، وعين كقائد لحملة حوران عام 1918م؛عمه(عبدالله كان مفتشا عثمانيا في وزارة العدل وقاضيا في محكمة الاستئناف. إبان الحكم البريطاني خدم عدد من أبناء الأخوة العمرية منهم (امجد) موظف للضرائب في الموصل و(أكرم)كاتب عدل و(اسعد) مديرا للأوقاف الدينية و (ارشد) مهندس البلدية فضلا عن ذلك كان العمريون من بين خمسة عوائل تسنموا أكثر من نصف التعيينات الوزارية إبان الحكم الملكي في العراق.