عدد الرسائل : 1810 العمر : 67 تاريخ التسجيل : 31/12/2006
موضوع: الموصل القديمة في القرن التاسع عشر الأربعاء 2 يناير - 9:30
الموصل القديمة في القرن التاسع عشر
الموصل ومؤسساتها الرسمية
سارة شيلدز ترجمة: يحيى صديق يحيى
(يعد منظر الموصل للوهلة الأولى منظرا رائعا فهي تقع في ارض منخفضة على دجلة،عند منتصف الوادي... يتقرب إليها بطريق طويل مستقيم. خلف التلال وخلف جبال الشمال المهيبة المغطاة بالثلوج)هكذا كتب احد الإداريين البريطانيين متحمسا عندما تسلم تعيينه الجديد عام 1919.(الموصل مدينة كبيرة وجميلة بل هي واحدة من أنظف المدن التي شاهدتها في رحلاتي:البيوت مبنية بإتقان بنوع من الرخام الأبيض،والشوارع معبدة) مع بداية القرن العشرين،كان على من يصل المدينة أن يعبر في البداية جسرا حجريا طويلا يبلغ سمكه قدمان وبارتفاع معقول يربط ضفتي نهر دجلة ليصل إلى أسوار المدينة...(كان هناك ثمانية مداخل للمدينة تتيح الدخول إليها عبر الماء أو البر.إذا نظرت إلى الوراء من على الجسر تبدو لك أطلال نينوى.أما الى الشمال فبوسعك أن تلمح المئذنة الطويلة البديعة لجامع النبي شيت).
وصل الأوربيون إلى هذه المدينة تحت دوافع جمعت بين الإعجاب والكراهية. فلم يكن لدى السير (مارك سايكس) شيئا حسنا يقوله بحق الموصل. لكن (إلي بانيسترسون) قال بان حتى أولئك الذين كرهوا هذه المدينة كان عليهم أن يقروا بأنها مكان يتمتع بقدر كبير من الأهمية.(على الرغم من قذارة أسواقها وصغرها وأجوائها الكريهة،وتواجد الأتراك فيها وازدحامها بالسكان الذين يصل تعدادهم إلى(90,000) نسمة .... لكن الكاتب عندما يتحدث عن التجارة فبوسعه أن يسهب في الحديث عن صناعتها الجلدية، وصناعة ورق السكائر ونجاريها وبيوتها). حقا كانت تجارة الموصل سببا في إكساب هذه المدينة تقديرا واسعا من قبل الرحالة فضلا عن الفاتحين البريطانيين عام 1918).
(قبل إقامة الجسر الحجري الطويل على دجلة كان على الزائر أبان القرن التاسع عشر أن يعبر جسرا من الزوارق أولا. كان الخليفة الأموي مروان قد بنى جسرا من الزوارق على النهر في القرن التاسع يمتد من نينوى ويعبر دجلة حتى يصل الى بوابة الجسر بواسطة الألواح الخشبية الثقيلة الموضوعة على الزوارق ومن ثم ربط الزوارق ببعضها. ظل الجسر في نفس الموقع حتى بعد أن أنهت الإمبراطورية العثمانية حكمها على المدينة مع مراعاة ترميمه من حين لآخر).ونظرا لاحتلال التجارة جانبا مهما ومميزا في حياة الموصل فقد تطلب توسيع الجسر بشكل أساس عام 1863 بإضافة مقترب صخري على الأراضي المنخفضة. وكان الحاكم يرى بان الجسر كلما كان طويلا فسوف يصمد أمام الفيضان عندما يجتاح السهول الرسوبية. في عام1910 قدر احد الرحالة المسافة بين الدعامتين بـ(300) ياردة بعد أعمال بناء أخرى تقدر بـ( 150) ياردة أضيفت إلى امتداد الألواح الخشبية القديمة المحمولة على الزوارق).
ما أن يدخل الرحالة إلى الموصل من بوابة الجسر حتى يجد نفسه في مركز الموصل التجاري المزدحم الذي يكون على هيئة مخروط، يمتد من الجزء العريض على النهر حتى يصل إلى المكان الذي يجري فيه تصريف العملة الذي يقع بالقرب من وسط المدينة. في الأوقات الاعتيادية يجد الزائر نفسه مأسورا في خضم صخب هائل، وروائح، وحركة، وحيث يتجول الناس في الأسواق والدكاكين التي تصنع فيها البضائع وتعرض للبيع. ولعل ما يميز السوق هو وفرة الدكاكين التي يقدر عددها (بأكثر من 2,600 دكان). تمتاز الدكاكين المطلة على الشارع بصغر مساحتها التي لا تتجاوز الثمانية أقدام مربعة، الغالبية منها مسقفة، والبعض منها تحميها مظلات مصنوعة من القماش أو الخشب من التأثيرات الجوية الطارئة. تباع البضائع الثمينة في أبنية شديدة الحماية تقع عند المداخل المؤدية الى الأبواب السبعة للسوق المركزي. وحيثما تسوقه قدماه فان الزائر قد يجد نفسه في منطقة متخصصة بالأقمشة والأنسجة، وثانية لصناعة الجلد، وأخرى للتوابل، وتلك التي تعرض فيها الأدوات المعدنية.
الجزء الغائب من المخروط العريض هو موقع طبقة الموظفين. في الحافة الجنوبية وعند مدخل القصر، يقوم الحاكم ومساعديه من الموظفين بأداء أعمالهم، وإلى الجنوب من القصر مباشرة تعقد المحكمة القانونية جلساتها بصورة منتظمة يترأسها القاضي الذي تعينه الحكومة العثمانية المركزية في اسطنبول، وتستمع المحكمة إلى القضايا التي تعرض عليها من جميع طبقات الشعب، كقضايا العقود، والطلاق، ومحاكمات الجرائم والميراث. أما الطرف الشمالي فيفصله خندق عن باقي المدينة، القلعة وساحات استعراض الجند(الميدان) تؤشر الحضور العسكري في المدينة.
برزت الجوامع على كونها من أكثر المؤسسات قبولا وحضورا مميزا في حياة الأغلبية من سكان مدينة الموصل، فهي تأخذ مواقعها في وسط مناطق الأعمال التجارية وعلى امتداد المدينة أو المحافظة تحتضن المساجد الناس ليس فقط لأداء صلاة الجمعة بل بقية الصلوات الأخرى على مدى النهار. وعلى مر القرون دأبت وجوه من النخبة أو شخصيات من العوائل الحاكمة على تشييد المساجد في الموصل، تميز البعض منها بالضخامة، عاكسة ببنائها فخامة ونوع الطرازات السائدة في تلك الفترة، فزينت واجهاتها المبنية بإتقان زخارف ونقوش مميزة فضلا على اشتمالها على مجازات داخلية كبيرة بني العديد منها في أماكن قليلة السكان كبداية لبنية تحتية بهدف تشجيع المقيمين الجدد.
مبان أخرى أقيمت على طول الجامع كجزء من مجمع، وكل البناء موقوف على هيئة خيرات، أو(وقف)، وحتى نهاية القرن كانت معظم المدارس التي يدرس فيها أطفال الموصل ملحقة بالوقف، وإبان القرن التاسع عشر ألحقت (175) مدرسة بالجوامع بدءاً من مدراس الأطفال الصغار وصولا إلى المدارس المتقدمة المتخصصة بالتربية الإسلامية والدينية، وقد يشتمل الوقف على مؤسسات خيرية أخرى كأن يكون مستشفى، أو مستوصفا، أو مطبخا لتوزيع الشوربة، كما تقوم المؤسسات التجارية القريبة بتجهيز الأوقاف بما يلبي حاجاتها من الخدمات والصيانة.
تعد مدينة الموصل العاصمة الإدارية والتجارية لإقليم كبير ومتنوع، وكونها عاصمة الإقليم، فان ذلك يعني أنها تجذب إليها أولئك المولعين بالقانون،والتعليم،أو الباحثين عن الثراء والنفوذ. كانت الموصل المركز التجاري للإقليم وعليها تتواجد المقرات العسكرية، وتقوم الحكومة بأعمالها العديدة انطلاقا منها، فضلا عن كونها مصدرا لتوزيع الأموال والتخصيصات الحكومية، ناهيك عن كونها المركز القانوني(الشرعي)، حيث أن القضاة الدينيين يصدرون القوانين العادلة بشأن القضايا التي يعرضها عليهم الوافدون إلى المدينة ناشدين العدالة. إن وجود الموظفين في المدينة وتمركز المؤسسات فيها يمنحها الحيوية والحراك الاقتصادي الذي قد لا يتوفر خارج عاصمة المدن.
العثمانيون والموصل
خلال القرن التاسع عشر عدت الموصل العاصمة المحلية لإقليم أو مقاطعة الموصل، كمقاطعة إدارية في الإمبراطورية العثمانية، وخلال هذه الفترة،كان قد مضى على وجود الإمبراطورية ما يقرب من ستمائة سنة،وفي غضون فترة من تلك الحقبة، كان الحاكم العثماني السلطان وحده هو الحاكم الأوحد ذو الصلاحية المطلقة الذي يحكم العالم في غرب الصين، ـ السقف الجغرافي للإمبراطورية آنذاك ـ ، فالحاكم يحكم أراض وأقاليم في ثلاث قارات،أوربا،آسيا،وأفريقيا.وفي ذروة قوته كان يتدخل في شؤون اكبر الدول الأوربية، حتى انه نافس سلالة هابسبرغ الحاكمة وأملى شروطا على ملك فرنسا، وفي القرن التاسع عشر بدأت حدود الدولة العثمانية تأخذ بالتقلص، ذاك أن القوات الأوربية دحرت الإمبراطورية في حرب ضروس، فضلا عن أن بعضا من شعوبها البعيدة عن مركز النفوذ العثماني راحت تقاتل من اجل الاستقلال.
حكم السلطان العثماني من عاصمته اسطنبول بدعم من مؤسسة بيروقراطية ضخمة، تمثلها قوة عسكرية كبيرة،وشبكة واسعة من المعلمين الدينيين والقضاة على الرغم من ان منصب السلطان كان تشغله على الدوام شخصية تنحدر من سلالة آل عثمان، وكذلك كل الذين احتلوا مناصب في المؤسسات البيروقراطية، العسكرية منها أو الدينية الحاكمة على مر الزمن. كافح السلاطين العثمانيون خلال القرن التاسع عشر من اجل تأسيس سيطرة مركزية قوية على أجهزتهم الحاكمة في العاصمة الإمبراطورية اسطنبول وكذلك على بقية أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف.
وكما هو الحال في بقية أنحاء الإمبراطورية العثمانية جلب القرن التاسع عشر إلى إقليم الموصل تحولات وتغيرات بارزة، دفعت النخب والرأي العام سواء التي في المدينة أو المناطق الريفية المحيطة بها إلى النظر إلى هذه التغيرات على أنها تمثل تهديدا حقيقيا لأسباب معيشتهم أو الامتيازات التي يتمتعون بها، وجاءت الإصلاحات التي فرضتها الحكومة العثمانية المركزية لتمنح الفرص المناسبة لرفع المناشدات إلى الحكومة العثمانية، واتخذت شكل المواجهة مع السلطة في أحيان قليلة . يعد التاريخ السياسي البعيد للإقليم خلال القرن التاسع عشر الأساس لفهم الكفاح الذي خاضه في غضون تلك الفترة والذي دار بين الحكومة المركزية والإدارة المحلية، وبين الحكومات والشعب على حد سواء.