عدد الرسائل : 1810 العمر : 67 تاريخ التسجيل : 31/12/2006
موضوع: الحمامات الشعبية في الموصل الثلاثاء 6 نوفمبر - 8:42
الحمامات الشعبية في الموصل
القسم الأول
عبد الجبار محمد جرجيس
الحمامات حرفة شعبية لها علاقة واسعة في حياة المواطنين،ولها في نفوسهم رجالا ونساء ذكريات جميلة،وأوقات قضوا فيها بعض الساعات من الزمن للنظافة وبعث الراحة في الجسم بعد التعب والإجهاد بسبب العمل الذي يقوم به. لذلك كان للحمامات أهمية بارزة في حياة الشعوب،وخاصة الإسلامية منها،لأن الدين الإسلامي حث الناس على النظافة لقوله صلى الله عليه وسلم (تنظفوا فان الإسلام نظيفا). كما أوجب الإسلام على المحدث من الحدث الأكبر،القيام بالاغتسال لإزالته،لذا نجد الحمامات قد نشطت في استقبال روادها من أجل النظافة والاغتسال.
وتروي لنا المصادر التاريخية أن من أقدم الحمامات التي اكتشفت سنة(1898م) هي حمام (قصير عمرة)في الشام واكتشفها الرحالة (الديزموسل)،حيث كانت هذه الحمام تتكون من قسمين رئيسين،هما(قاعة الاستقبال) و(الحمام)، ومما زاد من قيمة هذه الحمام وبقائها، التصاوير المرسومة عل جدران بهو الاستقبال والحمام، ومن هذه الصور تظهر صورة أحد الخلفاء وهو جالس على عرشه، يحف به شخصان وفوقه مظلة محمولة على عامودين حلزونين عليها كتابة كوفية، ويقف خلف الخليفة ستة أشخاص ويعتقد ان بناء القصر والحمام حسب قول(نولدكة) و(بيكر) حوالي سنة(711م) في عهد الخليفة الوليد الأول
الذي توفي سنة(715م)،وكانت الحمام مقسمة الى:
1. الغرفة الباردة ابو داتريوم) ويغطيها قبو نصف اسطواني وقد زينت هذه الغرفة بأجمل الصور التي تزين جدرانها، فيها أوراق نباتية متدلية من مزهريات وأشجار النخيل والعنب وعليها عناقيد التمر،وتقف عليها طيور البادية، كما نجد فيها مشاهد لأحد الأسود وهو يهجم على حمام وحشي.
2.الغرفة الدافئة تيداريوم)،وهي مغطاة بقبو متقاطع وقبة السماء في الحمام، رسمت على سطح صحن في داخل القبة،ضبط فيها مواقع الكواكب.
3.الغرفة الساخنةكاليداريوم)، مربعة الشكل تغطيها قبة نصف كروية محمولة على أربعة مثلثات كروية.
تعتبر هذه الحمام أروع ما وصل من نموذج لحمام في العصر الإسلامي،والتي تشهد على مدى الدقة والضبط والتفاخر بهذا البناء وزخرفته، وقد كان لهذا الاسم أهمية علمية خاصة، لاكتشافه في المنطقة الفاصلة بين البلاد الواقعة على حوض البحر المتوسط وبلاد المشرق الأدنى، تلك المنطقة التي جرى فيها تبادل الثقافات مع الثقافة الإسلامية.
في بغداد أشار الرحالة بن جبير أثناء زيارته اليها (1183هـ)انه يوجد في جانبها الغربي فقط سبع عشر محلة ، يوجد في كل محلة حمامان أو ثلاثة حمامات. تبدأ حكاية حمامات بغداد من العهود الإسلامية المتأخرة عندما اعتادت الأميرات والأمراء من بني العباس على مزاولة الاستحمام البخاري الذي يريح الأعصاب والعضلات،ويقلل الشد الحاصل في شد الجسد ويعيد للجسم نضارته وصفاءه. وإبراز فتنته. وبرز من خلال ذلك عادات وتقاليد خاصة بالحمامات فاهتمت الدولة بها، فكان على (المحتسب) الذي يتم تعيينه لهذا المنصب مراقبة الحمامات من جهتين الأولى نظافة الحمام وتقيده بتنظيف أماكن الغسل والاغتسال وتوفير الماء الحار،اضافة الى اتباع الأسس الصحية من حيث توفير المكان الواسع والمناسب وتنظيف الأقنية والاهتمام بالعاملين فيها،كما أوجب عليهم تعطير المكان بالعطور المتنوعة،كما يراعى الجانب الأخلاقي،وعدم التعرض للنساء وكانت الحمامات من الحرف المهمة التي يرعاها (المحتسب). ان الإسلام شدد على ستر العورة وعدم إظهار المفاتن أمام الناظرين كما قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن الله الناظر والمنظور)..لذلك نجد ان الحمامات كانت نوعان،الأول(للرجال) ،وله مدخل خاص به.والثاني (للنساء)وله مدخل آخر خاص به،ولذلك فهم لا يلتقيان،وقد اتخذ الخليفة(المقتدر1075-1095)في أول خلافته أمرا يمنع تصريف المياه القذرة للحمامات الى نهر دجلة،وإلزام أصحابها بحفر آبار خاصة بذلك.
والظاهر أن إتقان الطراز المعماري للحمامات في بغداد وشمولها على قواعد صحية قد استمر الى فترة طويلة.فقد أشار إليها الرحالة(ابن بطوطة)في زيارته لبغداد سنة (1336 م).حيث يصف الحمامات وكثرتها ويعتبرها أبدع الحمامات وكانت مطلية بالقار ومسطحة به، يخيل لرائيه انه رخام اسود. كما يشير إلى انه في كل حمام خلوات كثيرة ، كل خلوة فيها مفروشة بالقار، مطلي نصف جدرانها مما يلي الأرض به،والنصف الآخر مطلي بالجص الأبيض الناصع. في داخل كل خلوة (حوض) من الرخام فيه أنبوبان احدهما يجري الماء الحار فيه، والآخر للماء البارد.فيدخل الإنسان الخلوة منفردا لا يشاركه أحد إلا إذا أراد ذلك.
والظاهر ان إتقان الطراز المعماري للحمامات في بغداد وشمولها على قواعد صحية والنظافة قد استمر لفترة طويلة. حيث أشار الرحالة(ابن بطوطة)في زيارته لبغداد سنة(1336م). غير ان الصفة الأخلاقية قد حازت اهتماما كبيرا لدى الدولة بسبب تعلقها بالالتزام الشرعي واعتبار الأمر من مظاهر السلوك العام للمجتمع. ففي خلافة المقتدر (991-1031م) صلب يدعى(أبو حرب)على باب حمام النساء بسوق يحيى لأنه وجد فيه. كما كان على صاحب الحمام ان يعطي ثلاثا من(الفوط)،احدهما يأتزر به عند دخوله،والآخر يأتزر به عند خروجه والأخرى ينشف فيه الماء عن جسده. وكان في الحمامات من يقوم بحلاقة الشعر ويسمونه(المزين) الذي يشترطون فيه ان يكون بصيرا بالحلاقة،ومنها أيضا (المدلك) الذي يقوم بتدليك الجسم.ومن بين وصايا(المحتسب) بان يدلك يده بقشور الرمان لتصبح خشنة فتخرج أوساخ البدن.
الحمامات في الموصل...
أما الحمامات في الموصل فقد تميزت هي الأخرى بكون اغلبها حمامات عامة وجدت في منطقة الأسواق لاستخدامها من قبل روادها، حيث غلبت على الحمامات الخاصة لعدم وجود إسالة للماء.ولحاجتها إلى وقود لا يمكن تهيئته بسهولة، وقد صممت بشكل يضمن الانتقال التدريجي من البرودة الى الحرارة وبالعكس شأنها في ذلك شأن معظم الحمامات المماثلة في الطراز القديم، ومثيلاتها في البلاد العربية الإسلامية والغاية منها عدم الانتقال المفاجئ من البرودة الى الحرارة وبالعكس, وتعطى جميع أقسام الحمامات بقباب ويتميز المسبح بتكوينه من ساحة وسطية تحف بها ثلاثة أواوين مقببة بالإضافة الى محل(الدواء)،وتغطي كل ذلك(قبة) مشتركة فيها شبابيك عالية لإدخال الضوء.
وتشير المصادر أيضا الى ان أقدم حمام في الموصل حسبما جاء في(تاريخ الموصل)للأزدي، وهي حمام (إسماعيل بن علي العباسي)وقد علق عليها بالهامش عبارة حمام(شقافين الفرش).ربما كان هذا اسما آخر لحمام إسماعيل فقد كانت تقع قرب دور الأمارة في المنطقة التي تعرف اليوم بـ(محلة الكوازين).وقد حدد تاريخ وجود هذه الحمام في الموصل المرحوم(سعيد الديوجي) في كتابه(أعلام الصناع المواصلة) بقوله في الهامش:كان هذا سنة(146هـ-763م).بلغت الموصل أيام حكم الملك(بدر الدين بن لؤلؤ) الذي أقام فيها ثلاثا وأربعين سنة،وتوفي سنة(657هـ) أوج عظمتها،وكانت في أيامه أم البلاد،ونزهة العباد،ومحط العدل ومنبع الفضل.وقد ذكر في أيامه عن وجود (200) حمام زوج و(60) حماما منفردا للأبكار.ونقل المرحوم(محمد أمين العمري)ما كانت عليه الموصل في سنة(1201هـ/1786م) فقال: (ومن الحمامات (20)،والحمامات الخصوصية في البيوت(.
وجاء في سالمانة الموصل سنة(1325هـ-1907م) ما كانت عليه الموصل في تلك الأيام(17) حمام.
والملاحظ كثرة الحمامات الموصلية التي كانت موجودة،وما تزال رغم صغر المدينة سابقا التي كانت داخل سور الموصل.ولعل السبب يرجع الى كون الموصل مركزا تجاريا يصل الشرق بالغرب،فالمار من الشام إلى الشرق قلما لا يمر فيها،,والمار إلى الغرب من الهند وايران وخراسان لا يجد منفذا بدونها. وطبيعي ان المسافر حين ينزل الموصل يحتاج الى الحمام، فكانت كثرة هذه الحمامات هي الملجأ الوحيد لهؤلاء النزلاء للاستحمام والتنظيف واستعادة مرونة الجسم من عناء السفر. إضافة إلى أهل الموصل واهتمامهم بالحمامات وطرز بنائها، وتفننهم في توزيع المياه وإيصالها إلى الأحواض،وما يصاحب ذلك من عادات وتقاليد وطقوس خاصة بالحمامات، فامتازت هذه الحمامات بالنظافة والنضارة وحسن الاستقبال والخدمة التي تقدم للزبائن.
عن هذا يحدثنا الرحالة الانكليزي(ج.س.يوكنكهام) واصفا هذه الحمامات في كتابه(رحلات في بلاد مابين الرافدين) الجزء الثاني فيقول: (توجهت مع جماعتي الى دار اكبر تاجر نصراني في البلد.كنت قد حملت له رسالة من(المطران السرياني في ماردين،فاستقبلني الرجل بحفاوة وإكرام زائدين،واعد لي غرفة ...واقتادني احد خدمه الى (الحمام)،وبعد استحمامي وجدت في انتظاري خدم (الباشا) الذي لحق لديه العلم بوصولي أنا الرحالة الإنكليزي الى مدينته وكان عدد الحمامات كثيرة،ما يقارب الثلاثين،إلا ان مقارنتها مع حمامات القاهرة والشام لا سبيل اليها.
كذلك يصف لنا الرحالة(وليم هود)عام(1817م) في كتابه (من شاطئ ملياد إلى القسطنطينية) هذه الحمامات وحسن جمالها بقوله: (أما حماماتها فهي من أجمل ما شاهدته في هذا المضمار، فان واجهتها من المرمر وهي نظيفة وجميلة.