نقلا عن مجلة النبأ
تمهيد
تهيبت الخوض في هذا الموضوع الشائك لسببين:
الأول: عظمة الإمام الصادق (ع)، التي يتهيّب كل إنسان سويٍّ المثول أمامها حاضراً كان الإمام أم غائباً، فكيف بمحاولة الكتابة عنها في أي حقل من حقولها التي لا نهاية لها مع اليقين بالقصور والعجز عن إيفاء هذه العظمة حقها؟.
الثاني: حتى لا يظن ظان أن عظمة الإمام الصادق في قلوبنا وعقولنا مستمدة مما يقوله عنه علماء الغرب أو الشرق. والإمام هو الإمام والخلق جميعاً مأمومون له.
إن مدرسة الإمامة التي هي في الحقيقة والواقع امتداد وانعكاس صادق لمدرسة النبوّة، قد ابتدأت بأبي الأئمة وسيد الأوصياء والأولياء أمير المؤمنين الإمام علي (ع) ، الذي قال عنه رسول الله (ص): (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (1)، والذي قال هو عن نفسه: (علمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب) (2).
وليس من قبيل الصدف، ولا بداعي الاستعلاء والغرور أن يعلو أمير المؤمنين المنبر ويعلن للناس (سلوني قبل أن تفقدوني)(3)، ثم يكررها حفيده الإمام الصادق على ملأ من العلماء والمفكرين والرواة الذين أموا مدرسته ونهلوا من علومها وإشراقاتها.
إن الإمام الصادق(ع)، هو أحد أعلام هذه المدرسة الربانية، الذي أتاح له عصره أن ينشر فيها من العلوم ما شاء الله له أن ينشر شرقاً وغرباً، ثم يضيع منها ما يضيع ويبقى منها ما يدهش علماء الغرب والشرق، ويثير هممهم لإعداد دراسات موسعة عما وصلهم من علوم الإمام الصادق(ع).
وبين يدي كتاب يضم مجموعة من البحوث العلمية التي أعدها مركز الدراسات العليا المتخصصة في تاريخ الأديان بجامعة ستراسبورغ الفرنسية بمشاركة خمسة وعشرين من علماء الاستشراق وأساتذة الجامعات الأوروبية والأمريكية، الذين ألقوا بحوثهم هذه في ندوة نظمتها الجامعة المذكورة لدراسة الشيعة الإمامية وتاريخها العلمي والحضاري وعلوم الإمام الصادق(ع)، ونشرت بالفرنسية ثم ترجمت إلى الفارسية، وعرّبها من الفارسية الدكتور نور الدين آل علي في كتاب ضخم سماه (الإمام الصادق(ع) كما عرفه علماء الغرب).
في مدرسة الإمام الباقر (ع):
بعد تمهيد عن حياة الإمام الصادق (ع) وولادته في أسرة عريقة عالية النسب بين العرب، لها مكانتها السامية في قلوب المسلمين، توفرت على الأدب والفقه والمعارف الإسلامية، فضلاً عن العرفان والزهد والتقوى، والتفّ حولها الصحابة والتابعون، واستقطبت في مدرستها الحركة العلمية والفكرية الأصيلة، وجذبت إليها القرّاء وحملة الكتاب والسنة، حتى قال سعيد بن المسيب: (إن القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين(4)، فخرج وخرجنا معه ألف راكب) (5).
في هذه المدرسة استمع العلماء إلى اشراقات علمية لم يعهدها ولم يسمع بها أحد من هؤلاء العلماء من قبل في المدارس الأخرى.
وحيث لم يكن العصر مستعداً لا فكرياً ولا تقنياً لاستقبال تلك الكنوز والاستفادة منها، كان لابدّ من ظهور تلك العلوم على شكل رشحات خفيفة أو إلماعات مشرقة أمام آلاف العلماء بأيديهم الأقلام والقراطيس.
(ففيما كان الإمام الصادق لا يزال في مدرسة أبيه الباقر، عاد أحد تلامذة الإمام من مصر، حاملاً معه كرة أرضية مصغّرة مصنوعة من دقيق الخشب مركبة على قاعدة مستديرة، في سمائها اثنتا عشرة مجموعة من النجوم من برج الحمل حتى برج الحوت على شكل هيئة حزام يطوق الكرة كما تصورها بطليموس في كتابه (المجسطي) في القرن الثاني الميلادي، وكانت صورة الشمس تقع خلف الكرة بحيث تشير إلى دورانها حول الأرض مرة كل سنة مارة على منطقة البروج، وكذلك صورة القمر والسيارات الأخرى وهي تدور حول الأرض.
كانت هذه الكرة أول نموذج مصغّر للكرة الأرضية والسيارات الأخرى يراه الإمام الصادق، ومع أنه آنذاك كان في الحادية عشرة من عمره، فقد انتبه بذكائه الوقّاد إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه بطليموس فقال: إذا كانت الشمس تدور حول الأرض وتنتقل من برج إلى آخر في ثلاثين يوماً لتتم دورتها مرة كل سنة، فما هو السر في غيابها كل ليلة لتظهر في صباح اليوم الثاني؟ إذا كانت الشمس تستقرّ في كل برج شهراً واحداً فلابدّ أن نراها بصورة مستمرة فلا تغيب عنا كل مساء)(6).
كان قد مرّ على وفاة بطليموس (560) سنة، ولم يكن أحد قبل الإمام الصادق(ع) قد تنبّه في هذه الفترة الطويلة إلى هذا المشكل، ولا كان أحد ليجرؤ على انتقاد رأي بطليموس أو تخطئته سوى الإمام الصادق.
كانت هذه مجرد إشراقة أضاءت سماء مدرسة الإمام الباقر(ع) خرجت من مشكاة أحد الراسخين في العلم، ناهيك عن إشراقات أخرى كثيرة في علوم الجغرافيا والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء والهيئة إلى جانب علوم الفقه والتفسير وعلوم الحديث..
مدرسة الإمام الصادق(ع):
ولما استقلّ الإمام الصادق بمدرسة الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الباقر(ع)، انبعثت من هذه المشكاة علوم كثيرة اتخذت طابعاً نظرياً لانعدام الصناعة القادرة والتقنية اللازمة للانطلاق العملي، وظهر مما نقله الرواة عن الإمام الصادق(ع) تفوقه العلمي وجريه وحيداً في عصره في شتى الميادين العلمية، الأمر الذي ترك بصماته فيما بعد على الحضارة الإسلامية المزدهرة، وكان أساساً للحضارة الغربية الحديثة.
في مجـــال الطــــب
لا ريب أن الإمام الصادق (ع) كان على معرفة أكيدة بالطب، وقد خصص فيما ألقاه على المفضل بن عمر الجعفي فصلاً تحدث فيه عن الطبائع وفوائد الأدوية ووظائف الأعضاء.
وقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من آراء أئمة أهل البيت (ع) في الطب وسماه (طب الأئمة)، والمجلسي يروي الكثير عن هذا الكتاب في موسوعته الكبيرة (بحار الأنوار) وكذلك الحر العاملي في (وسائل الشيعة)، إلا أن كتاب (طب الأئمة) هذا فقد بعد ذلك ولا وجود له اليوم إلا في بطون الكتب.
وقد كان الطب من أحد العلوم التي كان يقررها الإمام الصادق في مدرسته، ويفيض في الإبانة عنها وكشف أسرارها وخفاياها.
(وهذا ابن ماسويه أشهر أطباء عصره ينصت لحديث مروي عن الإمام الصادق في شرحه وتوضيحه للطباع يقول فيه (الطبائع أربع: الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده، والريح وهو عدو إذا سددت له باباً أتاك من آخر، والبلغم وهو ملك يدارى، والمرّة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها) فقال ابن ماسويه: (أعد عليّ فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف) (7).
(وهذا طبيب المنصور يحضر عنده ليقرأ عليه كتب الطب، فإذا به يحضر مرة وعنده الإمام الصادق (ع)، فجعل الإمام ينصت لقراءته، فلما فرغ قال للإمام: يا أبا عبد الله أتريد مما معي شيئاً؟ قال: لا، لأن ما معي خير مما هو معك. قال: ما هو؟ قال: أداوي الحار بالبارد والبارد بالحار، والرطب باليابس واليابس بالرطب، وأرد الأمر كله إلى الله واستعمل ما قاله رسول الله(ص)، وأعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحمية هي الدواء، وأعود البدن ما اعتاد. قال الطبيب: وهل الطب إلا هذا؟. قال الإمام: أتراني عن كتب الطب أخذت؟ قال: نعم. قال: لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه وتعالى. فأخبرني أأنا اعلم بالطب أم أنت؟ قال الطبيب: بل أنا. قال الصادق: فأسألك؟ قال: سل. فسأله الإمام عشرين مسألة وهو يقول لا أعلم، فقال الصادق: ولكني أعلم. وبدأ الإمام بشرحها وتفصيلها)(9).
(وسأل طبيب نصراني الإمام الصادق عن تفصيل الجسم، فقال: إن الله تعالى خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً وعلى مائتين وستة وأربعين عظماً وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً، فالعروق هي التي تسقي الجسد كله والعظام تمسكها والشحم يمسك العظام والعصب يمسك اللحم.
وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً، في كل يد واحد وأربعون عظماً، منها في كفه خمسة وثلاثون عظماً، وفي ساعده اثنان، وفي عضده واحد، وفي كتفه ثلاثة وكذلك الأخرى، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساقه اثنان وفي ركبته ثلاثة وفي فخذه واحد وفي وركه اثنان وكذلك في الأخرى، وفي صلبه ثماني عشرة فقارة، وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع، وفي عنقه ثمانية، وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً، وفي فيه ثمانية وعشرون واثنان وثلاثون)(9).
(ومن نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد وفاته رأيه في إمكانية تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت، حتى ولو ظهرت على المريض إمارات الموت أو علامات شبيهة بعلامات الموتى، وقد يعيد الحياة إلى المريض قطع وريد بين أصابع يده اليسرى إسالة للدم منه)(10).
(ومن خريجي مدرسة الإمام الصادق العلمية في مجال الطب والصيدلة جابر بن حيان، فهو بالإضافة إلى تخصصه في الكيمياء، صنف مؤلفات في الطب، أورد منها ابن النديم - في الفهرست -: (رسالة في الطب - كتاب السموم - كتاب المجسة - كتاب النبض - كتاب التشريح). وكان جابر أول من أشار إلى طبقات العين، فسبق بذلك يوحنا بن ماسويه المتوفى سنة 243هـ وسبق حنين بن إسحاق المتوفى سنة 264هـ، وهما من أعلام الطب في هذا العصر)(11).
الهوامش
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/124 و4/22 وقال: هذا حديث صحيح.
(2) فرائد السمطين 1/101 وينابيع المودة 1/83.
(3) نهج البلاغة ـ الخطبة 189.
(4) هو الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
(5) مناقب آل أبي طالب لابن شهر اشوب 4/136.
(6) الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب ص92-93.
(7) المناقب 4/259.
(8 ) المناقب 4/260.
(9) المناقب 4/255-256.
(10) الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: ص112-113.
(11) الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: ص52 ينقل عن الفهرست لابن النديم ص498.