طلال النعيمي المدير العام
عدد الرسائل : 1810 العمر : 67 تاريخ التسجيل : 31/12/2006
| | سعد البزاز.. السائل الذي لا شكل له | |
سعد البزاز.. السائل الذي لا شكل له__________________________ “أخطبوط، له يدٌ في كلّ بلد، كائنٌ هلاميّ أكثر خطورة من السيانيد، وأكثر انتشاراً من الهواء”، هذا ما قاله لي أحدُ الأدباء العراقيين الذين عملوا مع سعد البزاز لأكثر من عقدٍ من الزمان، البزاز الذي لا يندرجُ تحت صفة معيّنة، لكنه يندرج تحت كل الصفات.
في 18 من نيسان، ومن بيت موصلّي، ولد سعد البزاز عام 1952، من عائلة غير بعيدة عن الأدب والصحافة والسياسة، فخاله هو شاذل طاقة (1929-1974)، الشاعر العراقي، والمدير العام لوكالة الأنباء العراقية، ووزير الإعلام ثم السفير العراقي في الاتحاد السوفييتي السابق، ثم وزير الخارجية عام 1974، حتى أغتيل بالسم في المغرب.
من هذا البيت انطلق سعد، باتجاه الحياة العراقية، أصوله الموصلية، وشهرة خاله، البعثي العقائديّ، جعلته يختصر الطريق بسرعة، فالشاب الذكيّ، يجيد اقتناص الفرص، والأمرُ لا يعدو كونه ارتداء بذلة زيتونيّة، وشاربين غليظين، وأسرة حسنة السمعة بعثياً.
جاء البزاز من الموصل وهو لا يحمل سوى الشهادة الثانوية، كان على معرفة بأحد الرفاق البعثيين المنحدرين من الموصل أيضاً وهو محمد مناف الياسين.
كان الياسين رئيس تحرير مجلة اسمها (العمل الشعبي) فعمل سعد معه في هذه المجلة محررا متواضعا، لكن حينما أُغلقت انتقل للعمل إلى الإذاعة، وحين أصبح أرشد توفيق، الروائي البعثيّ الموصلّي أيضاً، مديراً لإذاعة بغداد، عيّنه مذيعاً فيها، ومنذ ذلك الحين، ونجمه بدأ بالتصاعد حتى عرف سعد الطريق إلى التلفزيون وقدّم برامج تلفزيونيّة منوّعة، كان أحدها برنامج مسابقات.
يبدو البزاز طيفاً غائماً بالذاكرة، أي بمعنى، حتى أقرب أصدقائه لا يتذكر تفاصيل حياته، بل أنّ أحدهم قال “إنّ ما تعرفه عن سعد، هو نفسه ما تجهله عنه”، الأمر الذي يجعل سعداً شخصاً غير قابل للحصر بين قوسين، فهو يتحفظ عن الإدلاء بمعلومات تخصّ جانبه الشخصيّ، أو الأسريّ، أو مكان منزله، ويكفي أن تقول له “لقد رأيتُكَ ماراً من الشارع الفلانيّ”، حتى يسيطر عليه الارتباك الذي قد يصل به إلى تغيير سيارته الشخصية.
بسنّ مبكرة، تسلّق البزّاز السلّم البعثيّ بطريقةٍ صاروخيّة، وتسنّم مناصب لا تُمنح إلاّ لذوي الانتماء الحزبيّ، والولاء المطلق للنظام الصدّامي، ومن ضمن مهامّه صار مديرا لـ”الدار الوطنيّة للنشر والتوزيع”، وهي واحدة من أهمّ مرافق تصدير الفكر البعثيّ، والمسؤولة عن إصدار الصحف وطباعتها، ثمّ مديراً للإذاعة والتلفزيون، و رئيس تحرير جريدة الجمهورية.
لعب البزاز دوراً مؤثراً في الإعلام العراقي أثناء فترة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، فقد كان واحداً من العقول الخطرة بتسيير ماكنة التعبئة، ورسم صورة “الجيش المنتصر” و”البلد السعيد” على ملامح العراق، الذي تفوح من جميع أركانه رائحة البارود وسواد الجنائز.
بعد هذا، وحين حوّل عدي صدام حسين نظره إلى الوسط الصحفيّ، عمل البزاز نائباً له في نقابة الصحفيين، ويبدو من المنطقيّ الإشارة إلى أنّه لا يرضى بأن يكون نائباً بعد سلسلة الإدارات التي تسلّمها، لكنّ عدي يبطش، ولا أحد يحميه من “غضب الأستاذ”، فرضي بهذا الحال.
يحتفظُ الموظفون الذين عملوا مع البزاز، إلى يومنا هذا بصورته وتفاصيل شخصيته، منها أنّه ذو وجه مبتسم على الدوام، وبشوش جداً، تظهر أسنانه حين يبتسم رغم شاربيه الكثين، لكنّ هذا الوجه، ينقلبُ بلحظةٍ واحدة إلى وجه غاضب لا يأمنُ مَن يقابله من البطش، أو الفصل، كما أنّ هؤلاء الموظفين، يشعرُ كلّ واحد منهم بأنه الأقرب للبزاز، وبأنه الأبعد في ذات الوقت.
البزاز ذو بعد مؤامراتي في إدارة العمل الإعلاميّ، فهو يقول لكلّ موظفيه المحيطين به “إنك يدي اليمنى”، لكنه في ذات الوقت، يكون قد جهّز بديلاً يملأ مكان “اليد اليمنى” بأيّة لحظة، كما أنه يصنع مدراءه ويجعلهم ذوي قرارٍ وسلطة كبيرة، لا تخضع إلاّ له من جهة، ويستخدمهم لخضوع الموظفين الآخرين من جهة أخرى.
كتل ضبابيّة تلفّ بعض سنواته، غير واضحة التفاصيل، إلاّ أن فترة ما بعد 1990، كانت هي الأكثر نشاطاً لدى سعد، خصوصاً من ناحية التأليف، فقد كتب “حربٌ تلد أخرى – التاريخ السريّ لحرب الخليج”، و”رماد الحروب – أسرار ما بعد حرب الخليج”، و”الجنرالات آخر مَن يعلم”، و”الأكراد في المسألة العراقية”، وهذه الكتب جميعها أصدرها بسنوات متقاربة، بعد أن أصدر في ثمانينيات القرن الماضي كتابين، أولهما “حكاية الولد والبنت آخر الليل”، وهو مجموعة قصصية، و”الحرب السرية – خفايا الدور الاسرائيلي في حرب الخليج”، ويبدو أنّ التأليف هو الجانب المُهمل لدى سعد، والذي يعود إليه بين الحين والآخر، فضلاً عن دراسته الأكاديمية، حيث تنقل بعض المصادر أنه نال شهادة الماجستير في العلاقات الدولية من معهد جامعة الدول العربية للبحوث والدراسات، فضلاً عن حصوله على ماجستير في التاريخ الحديث من كلية القانون والسياسة، وحاضرَ أيضاً لمدة بسيطة في جامعات العراق، والأردن، والمملكة المتحدة حينما كان مديراً للمركز الثقافي العراقي في لندن.
في فترة التسعينيات، كانت جريدة الزمان محطة المعارضة العراقيّة وكتّابها، عمل فيها عدد كبير من الأدباء والصحفيين العراقيين، منهم مَن كان محرراً في “منشورات البزاز”، وهي دار نشر أظهرت حوالي 20 كتاباً ثم نامت، ربّما لإيمان البزّاز بعدم فائدتها، وفائدة التأليف أيضاً، فآخر كتاب ألفه كان قبل أكثر من 15 عاماً.
قبل أن يعرف كثير من السياسيين العراقيين الطريق نحو علاقات مع المملكة العربية السعودية، كان سعد قد سبقهم بأشواط طويلة، تعود إلى أعوام مبكرة من التسعينيات، حيث كانت علاقته الوطيدة مع خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي السعودي، بوابة إلى دعمٍ لا ينتهي، وسياسات تتقلب مع تغيّر مسار العِقال السعوديّ.
عام 1995 كان عاماً ذهبيّاً للبزّاز، فقد أقنع الشاعرين العراقيين الكبيرين محمد مهدي الجواهريّ وعبد الوهاب البياتي بالاشتراك بمهرجان الجنادريّة السعوديّ، وحالما وصلوا إلى هناك، خرجت صحف النظام في بغداد تندّد بمشاركة الجواهري والبياتي، وكتب أحد الصحفيين الصغار مطالبة بسحب الجنسية العراقية من الجواهري والبياتي، والتي لم تُسحب منهما حتى اليوم، فاستثمر البزاز هذه الخطوة، وخرج بمانشيت عريض على صفحات الزمان، ليدرج اسمه مع الجواهريّ والبياتي على الصفحة الأولى.
بقي البزاز طوال هذه المدّة، تحت عباءة السعودية، حتى سبب صداعاً للنظام البعثي في بغداد، وشكّل تحدياً لا بأس به، ولعب على الورقة القطريّة، وظلّت السعودية والبحرين وقطر محوره المفضّل حتى اليوم.
ثم دخلت الدبابات الأمريكية إلى بغداد، وتطلب المنطق من سعد موقفاً، فقد زال نظام صدام، هل سيبقى بين عمان ولندن والسعودية؟ أم أنه سيعود إلى العراق؟ لكنّ البزاز الواقف مع الجميع وضدّ الجميع في آن: اختار أن يصبح معارضاً من جديد، لحكومات أقل سطوة من نظام صدام، وبدعم أقوى، فهو هذه المرّة استثمر الحروب المذهبيّة المغطاة بين السعودية وجمهورها، وإيران وجمهورها.
عاد البزاز في زيارة خاطفة إلى بغداد عام 2003، أنشأ مكتباً لجريدة الزمان، لتصدر أيضاً بطبعة بغداديّة فضلاً عن طبعاتها اللندنية والعربيّة، وفي عمّان، أسّس مشروعه الأخطر: قناة الشرقيّة الفضائية.
لم تكن قناة الشرقية مجرد فضائيّة مثلها مثل الأخريات من القنوات، لكنها كانت مصدر الحطب الأكبر في زيادة الاشتعال العراقيّ الداخليّ، وهي تقفُ ضدّ حكومات أياد علاّوي، والجعفري، وحكومتيْ المالكيّ، لكن بنسب متفاوتة، لكنّ أعنف هجماتها هي تلك التي استهدفتْ دورتيْ حكومة نوري المالكيّ.
ليس مبالغةً إنْ أشرنا إلى أنّ نشرة أخبار واحدة من الشرقيّة، تعادلُ ضرر عبوة ناسفة في سوق شعبيّ مزدحم، فكان كادرها هو الذي يجلبُ بنزين التصريحات السياسيّة السنيّة، ليضعها على حطب السياسات الشيعيّة، وكان البزاز في الشرقيّة هو المُقعّد الأول لجملة “منطقة ذات أغلبية سنيّة” أو “منطقة ذات تواجد شيعيّ”.
ظلّ البزّاز وإعلامه فاتحاً ألف عين، وشبكة مراسلين، ومكاتب عديدة، فيما يخصّ الحرب ضدّ حكومة المالكي، فمقطع فيديو يُظهر جندياً يرقصُ في سيطرة مثلا، يكون وببساطة ملفاً رئيسياً في نشرات أخبارها، وصورة عن جريحٍ، يمكن أن تظهر خمس مرات أو أكثر باليوم، يقفُ البزّاز بكلّ ترسانته الإعلامية من محررين ومذيعين ومذيعات لجعل هذا الملف أو ذاك علكاً مستمراً بأفواه الكاميرات، التي تنقل حريقها إلى الشارع العراقي، أولاً بأول.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تلاعبت الشرقية بمفردتيْ “استشهاد” و”مقتل” بطريقة استفزازية، فمن الممكن أن تخرج بخبر عن “استشهاد سعوديّ في أفغانستان”، لتردفه بـ”انفجار عبوة ناسفة في بغداد يسفر عن مقتل 20 مدنياً”، وليس هذا فحسب، بل استقطب البزّاز الإعلاميين البعثيين الذين عملوا معه في الإذاعة والتلفزيون في العراق حين كان مديراً ليعملوا مدراء لمكاتب الشرقية، ومحاورين تلفزيونيين، ومذيعين.
مع مجيء شهر رمضان يتأكد المشاهد العراقي من أنه سيرى حزمة أعمال درامية وتلفزيونية ضد الحكومة، استثمر البزاز فيها تدني أجر الفنان العراقي، خصوصاً حين استقر أغلب الممثلين والكوادر الفنية العراقية في سوريا أيام الاقتتال الطائفي في 2006 و2007.
عام 2006، رتّب علي الدباغ لقاءً مع البزاز، وتمّ بالفعل في فندق الفور سيزنس بعمّان، بحضور موفق الربيعي.
اقترح البزّاز آلية جديدة لعمل القناة، وعرض على ممثلي الحكومة العراقية رسم سياسة أخرى للشرقية بعد عودته إلى بغداد، حتى قال لهم بالحرف الواحد “تستطيعون اعتبار مكتب الشرقية في بغداد مكتباً تابعاً لرئاسة الوزراء”، وبنهاية اللقاء، طلب البزاز أن يلتقط صورة جماعية مع الوفد، وقال “هذه الصورة للتاريخ، أفتخرُ بها أمام أبنائي والأجيال القادمة”، لكنّ البزّاز، وفور عودة الوفد العراقيّ إلى بغداد، اتصل بالدبّاغ ليقول له “انتظروا مني قنبلة على الحكومة العراقيّة كل 24 ساعة”.
وظلّ البزّاز يرمي بقنابله على العراق وحكومته، بطريقةٍ طائفيّة حيناً، وحزبيّة أحياناً أخرى، ساعة يقرّب الصدريين فتراهم ضيوفاً دائميين في الزمان والشرقيّة، وحيناً يقرّب القائمة العراقيّة، لكنّ استهدافه للمالكيّ وحزب الدعوة هو الثابت الوحيد لديه منذ عدة سنوات.
المحيّر في سعد البزاز، هو أنه ليس بعثياً عقائديّاً، بل أنّ بعثيي الفكر والعقيدة كانوا يكرهونه، كما يكرهه السياسيون من أصحاب العلاقات الوطيدة مع السعوديّة، لكنّ الثابت بالأمر، هو أنّ هذه الشخصيّة، بمكرٍ ودهاءٍ غير مسبوق، استطاعت أن تعيش مع كلّ الأنظمة، وأن تفيد منها، وأن تنقلبَ عليها فيما بعد، وأن تشكّل ضغطاً كبيراً، دون ثوابت تنطلق منها، فالثابتُ الوحيد لدى سعد البزاز، هو سعد البزاز!
له حبّ عملاقٌ لذاته، ويستعدّ لبذل كلّ شيءٍ من أجل هدفه، فالبزاز، صاحب الذوق العالي البرجوازي الباحث عن أغلى وأندر أنواع السيجار الكوبيّ، والويسكي الانكليزي، من الممكن أن يكون في أية لحظة إسلاميّاً، أو يساريّاً، من الممكن أن يعود إلى جذوره البعثيّة، أو أن يصبح إنساناً كونيا، ربما يصبح هذه الشخصيات كلّها في وقت واحد، لكنه بالنهاية كائنٌ سائل، يتخذُ شكل الإناء الذي يحتويه.
المسله | |
|