الشبك
المتغيرات القوميه في كردستان العراق
بقلم : الدكتور ميشيل ليزيرك
تعريب : الدكتور اسماعيل سلطان
يعتبر الشبك ظاهره سكانية متميزة في شمال العراق وقد ظهروا لمجموعة عرقية واضحة في القرن السادس عشر الميلادي على خلفية التنافس العثماني الصفوي في المنطقة . ومؤخراً بدا نوع من الابهام والغموض يطغى على هذه المجموعة العرقيه ضمن التباين العرقي في المنطقة ولقد ظهر الاهتمام بها مؤخراً بسبب السياسات التفكيكية للتجانس والتناغم العرقيين من قبل الحكومة العراقية خلال عقدي السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي .
الشبك :
لا يحد المتتبع لشؤون منطقة شمال العراق سوى النزر اليسير من المعلومات عن تلك الجيوب الصغيرة من المجاميع العرقيه المتباينه والمنتشرة على حوافي كردستان العراق والممتدة من منطقتي تل عفر والموصل مروراً بكركوك الى خانفين وما حولها . وهذه التجمعات العرقيه كالشبك والباجلان والصارليه والكاكآئية وأهل الحق وكذلك اليزيديه تشترك في موروث ديني خاص يتصف بتفاوت المراتب بين رجال الدين للطائفة الواحده وهذا التخصص الديني الذي يمّيز رجال الدين عن سواهم يعتبر العامل الاسلاس للترابط القائم للافراد ضم كل مجموعه من هذه المجاميع وبهذا الشكل يظهر التشابه بين هذه المجموعات وبين الطائفة المعروفة بالصوفية على الرغم من ان معتقداتهم وطرائق ممارساتهم للشعائر الدينية تعتبر مزيجاً من معتقد الاسلام ومعتقدات ما قبل الاسلام وما عدا اليزيديه الذين يتكلمون اللهجة الكرمانجيه أوالباديذانيه الكرديه قام كل مجموعة من هذه المجاميع تتميز بلهجتها الملحية الخاصة بها وأغلها يتحدث بلهجة ترتبط بشكل أو آخر باللهجتين الكَورانيه او الهورمانيه أو لهجة ماجو ( بتضخيم الجيم ) كما هو الحال بالنسبة للشبك وكما يسميها أصحابها والناطقين بها وعلى الرغم من ذلك فأن التباين في المعتقدات الدينية واللهجات الملحيه من جهة وعلاقة هذه التجمعات ببعضها من جهة اخرى لم يثر الاهتمام الذي يستحق لدى اغلب الباحثين ولم يتم ف يهذا البحث التركيز على تاريخ وجغرافيا الشبك ولكن على نموّهم الحديث والتغيرات التي حصلت لتركيبة الشبك الاجتماعية وخاصة تحت التأثير الدامي للسياسات اللاحقة للحكومة العراقية وكذلك على التباين الحاصل في اللهجة التي يتكلمون بها . وتبقى المعلومات المستقاة هنا غير عكتمله لأسباب عديدة وان كان ذلك لا ينفي وجوب الاهتمام الحالي بالشبك ويظل الأمل ان يتوسع البحث ويمتد التمحيص في هذا الأمر في المستقبل القريب .
خلفية تاريخية :
ان الكثير من الغموض لا زال يحيط بتاريخ الشبك ولعل السبب في ذلك هو نشؤوهم اصلاً في مناطق خارج المراكز الرئيسية للعالم الاسلامي وقد حاول الكثير من الباحثين ربط اصول الشبك وغيرهم من التجمعات العرقيه الصغيرة في شرق تركيا الحالية وشمال العراق وغرب ايران بعصور ما قبل الاسلام ولكن ظهورهم كمجموعات عرقيّة متميّزة يجب ان ينظر اليه على خلفية الفترات المضطرب بين غزو المغول وتوطّد الامبراطوريتين العثمانية والصفويه بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين وهذه الفترات تميزت بغياب الاستقرار السياسي وسرعة تعاقب السلالت الحاكمه والفراغ النسبي للقوة في ارجاء عديدة من مناطق النفوذ ولذلك وعلى المستوى المحلّي فقد ظهرتْ مجاميع بشرية اتصّفت بتمايز عرقي وديني ولغوي وهذه الظروف هيأت المناخ الخصب لظهور اشكال لتنظيمات اجتماعية جديده وتفتح معتقدات دينية مختلفة . ولقد كانت القبائل التركيه التي ابتدأت الدخول الى المنطقة في القرن العاشر الميلادي سنيّة المذهب ومشيّعه بروح الجهاد على الرغم من كون معتقداتها الدينية الحقيقية هي عبارة عن خليط من مبادئ الاسلام وشعائر سكان آسيا الوسطى مع نفحات من الديانة المسيحية ولقد كان هناك اختلاط تام بين هذه القبائل وبين فلاّحي الاناضول المسيحيين الا ان الآخريين سارعوا الى الانخراط تحت مظلّة المعتقدات الاسلامية لهذه القبائل وقد وجد باحثون عددون ان كثيراً من المعتقدات المسيحية لفلاحي الاناضول قد تسربت الى معتقدات هؤلاء الغزاة والكثير منها يعود بأصله الى المذهب البولصي وليس الى الكنيسه البيزنطيه في ذلك العصر والكثير من هذه المعتقدات لا تزال تجد صدى لها في شعائر بعض الطرق الصوفيه وكذلك الشبك والكاكآئيه وهناك باحثون آخرون يرون التوازي بين ديانة أهل الحق والمتصوفة الاتراك من جهة وديانات ما قبل الاسلام لدى اتراك آسيا الوسطى من جهة أخرى .
وفي الارياف دون الحضارة كان المتصوفة من مراتب القلندر والباب يمنّون المزارعون البسطاء بقرب نهاية الظلم وبزوغ فجر الخلاص وكان يسحرون متحدثيهم ببيان الفروقات بين الاسلام التصوفي وما سواه بين المعتقدات الدينية الأخرى ،وبذلك ساهموا في نشر معتقدات لا يصح ان تمسى اسلاماً صحيحاً كالتناسخ والملوك وعلى الرغم من كون الاساس المذهبي للصوفية ظهرت تباشيره في القرن التاسع الميلادي الا ان انتشاره الواسع لم يتحقق كتنظيم اجتماعي الا في القرن الثاني عشر الميلادي خلال حكم السلاجقة وخاصة اثناء الغزو المغولي للبلاد الاسلامية ولعل النمو الواسع وتزايد الهيبه الواضح لهذه الطرق (الطريقة النقشبندية على سبيل المثال ) يُعزى في احد جوانبه الى فراغ القوة الذي نجم عن ثهر الامارات الكردية في الامبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر وفي هذا المجال يُشار الى ظهور أهل الحق كحركة اجتماعية دعتْ الى معتقدات كالثنويه والتسامي والقدريه خلال القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين حيث يمكن مقارنتهم بالحركات الايرانية السابقة لهم كالمزدكية .
وقد ظهرت طريقة صوفية جديدة برئاسة الشيخ صفي الدين في آردبيل وتطوّرت الى حركة جهادية خلال القرن الخامس عشر ثم انطلق احفاد الشيخ صفي الدين ومريديه لتأسيس الامبراطورية الصفوية في بلاد فارس معلنية انفسهم من ذريته الأمام علي بن أبي طالب كي يكسبوا ولاء القاطنين في بلاد شرق الاناضول واستمالوا الى جانبهم القبائل التركية المجاورة والذين حارب افرادها وهم معلّمين انفسهم بشد رباط أحمر حول الرأس ولذلك اطلقت عليهم تسمية تزل باش ومعناها في التركية " الرؤوس الحمراء " وخلال قرون عديدة نمت الطرق الصوفية وتداخلت مع طوائف شعيية وسنية عديدة واعتباراً من القرن السادس عشر ابتدأ الحكام العثمانيون والصفويون اضفاء المذهب الديني على سكان المناطق التي يحكموها وقد تعرض الآلاف من المتصوفة لمذابح على يد السلطان سليم العثماني بعد معركة قالدريان مما اضطر أفراد الطائفة القزلباشيه الى التواري عن الانظار واخفاء معتقداتهم الدينية الحقيقية أو انضوءا تحت لواء السلطة العثمانية الحاكمة واعتنقوا المذهب السني البكتاشي للنجاة بأنفسهم من عقاب الحاكم .. وفي مطلعه الأحوال فان الطرق الصوفيه لم تتلاشى تماماً لأن بعضهم انخرط ضمن مقاتلي السلطنة العثمانية وكانوا وسيلةً لاذكاء الهمم بين الجنود الانكشاريه وهم النخبة ضمن المقاتلين الاتراك وبذلك استمرتْ لا بل نمتْ أكثر فأكثر الطريقة البكتاشيه حتى القرن التاسع عشر وسرى ذلك على مجاميع اخرى استطاعت ان تحصل لها على وضع متمّيز نوعاً ما ضمن الامبراطورية العثمانية ويشار في هذا الصدد الى الباجلان الذين قدموا الى مدينة الموصل اواسط القرن الثامن عشر وانتظموا للعمل كجباة ضرائب للسلطة المحلية الحاكمة ولعل ذلك يفسّر أيضاً استطاعة الشبك تجنّب المشاكل مع السلطة المحلية والتمكن من الاستقرار في شرق مدينة الموصل وهي ليست بمعزل عن مراكز الاستقرار المدني في الامبراطورية العثمانية .
ولكن هل يعني ذلك ان الشبك تمكنّوا من فرز انفسهم كمجموعة عرقية متميزة ؟ الاجابة على هذا السؤال لا تمكنهم في التبسيط المخل الذي يربط الخليط من معتقداتهم الدينية بكونهم من غلاة الشيعة بل يتعداه الى مشاعر الاسى والأعم التي تخالج الكثيرين منهم وحتى الوقت الحاضرين من محاولات جيرانهم التشكيك بمعتقداتهم الاسلامية وغلو آخرين في محاولة اخراجهم من حظيرة الاسلام ولعل ذلك ما دفعهم الى تصوّر انفسهم بمعزل عن جيرانهم العرب والاكراد ومع ذلك فالكثير منهم يعتبرون انفسهم ذوو اصول كردية وزد على ذلك ان بعضاً منهم انخرطوا بالفعل في الكثير من الحركات الكردية الناشطة وقد لا يحس الفرد منهم بأية مشاعر متناقضة بين كونه يتميز لغوياً ودينياً وبين تحدّره من أصل كردي بالمفهوم العام وعموماً فالولاء يكتنف الشبكي بمستوياته المختلفة وبنفس الدرجة منطلقاً من ولائه الشبكي مروراً بالولاء للقومية الكردية وانتهاء بالولاء للعراق كوطن .
ومع ذلك يمكن القول بان وضع الشبك ظلّ مبهماً منهم فسيفساء المنطقة ولكن وضمن سياق معيّن في الثمانينيات فقد أجبر سكان المناطق الشمالية في العراق على اتباع خيار واحد واضح وصريح فيما يتعلق بتحديد قوميتهم وكان هذا الخيار الأوحد هو إعلانهم اما الانتساب للعرب أو للأكراد وسيظهر لاحقاً التاثير الدامي الذي خلفه هذا الخيار عليهم .
وفي حال كهذا ، فان من المبالغة القول بأن مجموعة من البشر تظهر ضمن نطاق يختلف عنها وبالظروف التي ظهرت بها يمكن اعتبارها مجموعة عرقية متميزة ولا يصح كذلك تسميتها بالمذهب لأ[ن ذلك قد يسبغ عليها غطاءاً دينياً وذلك مجافٍ للحقيقة ولعل افضل ما يمكن وصفها به هو مصطلح الطائفة وقد تكون منحدرة من عرق واحد أو اعراق متعددة وذلك اعتماداً على التمايز اللغوي وليس اختلاف المعتمد الديني .
وقد لوحظ تقليدياً ان الشبك استوطنوا قرى صغيرة شرق الموصل تمتد حتى اسكي كلك على الضفة الغربية لنهر الزاب الكبير وقد جاوروا بشكل مباشر قرى مسيحية وأخرى تقطنها قبائل الباجلان واختلطوا بالباجلان اختلاطاً مباشراً بحيث سكنوا قرى مشتركة في كثير من الاحيان وكذلك جاوروا التركمان والعرب والى الشمال قليلاً اليزيدية كذلك .
ومن الصعوبة الوصول الى الاعداد الحقيقية للشبك في الوقت الحاضر لغياب أي احصاء حديث موثّق عنهم ولعل رقم مائة الف نسمة يقترب من الصحة وهم موزعون على حوالي ستون قرية متفرقة الى جانب بضعة آلاف يسكنون مدينة الموصل نفسها وقد اوردت الحكومة العراقية اعدادهم ضمن الاحصاء السكاني لعام 1960 فبلغت بهم خمسة عشر الف نسمة ضمن خمسة وثلاثون قرية على أن الانكليز اوردوارقماً يقارب العشرة آلاف نسمة سنة 1925 .
وقد شاب اغلب الدراسات السكانية الحديثة عن الشبك بعض الابهام والغموض فأحد الباحثين الاجانب وهو Rich قد ذكر ان سكان القرى الواقعة على طريق اربيل ـ الموصل والتي مر بها سنة 1836 هم روزبان وباجلان ذوات الاصل الكردي وان كانتا هاتين العشيرتين وثيقتي الصلة بالشبك ولكنه لم يذكر أي شيء عن لهجتهم المحلية أو معتقداتهم الدينية وذكر باحث آخر هو اوستن هنري ليارد والذي أمضى فترة طويلة في نقيبات في منطقة الشبك ذكر انهم ينحدرون من سلالات كردية عاشت في ايران وقد تمكن باحث آخر من احصاء خمسمائة عائلة شبكية ضمن القبائل القاطنة في ارجاء الامبراطورية العثمانية وذكر ان منهم من التزم المذهب الشيعي في العبادة بينما اعتنق آخرون المذهب السني وذهب آخرون لاعتناق الديانة البابية وكذلك قسم منهم أسمى لنفسه نبياً جديداً هو البير ولكن البير في الحقيقة هو لقب لأعلى مرجع ديني لديهم وفي جميع الاحوال اعتبر جميع هؤلاء الباحثين الشبك وجيرانهم الاقربون الباجلان ، اعتبروهم اكراداً بالاصل .
أما الدراسات العربية فقد نحتْ في أغلب الاحيان الى رد اصول الشبك للتركمان وأورد السيد أحمد الصراف على سبيل المثال الوجود الشبكي على خلفية الطريقة البكتاشية ـ القزلباشية وحاول دعم الرؤية القائلة بان قدومهم الى شمال العراق توافق مع الحملة الصفوية على العراق ولم يعتبر ان الشبك ينحدرون عن اصول كردية لأنهم حسب رأيه يتكلمون لغة اخرى تختلف عن اللغة الكردية وتعتبر مزيجاً من اللغات الفارسية والعربية والكردية وان المفردات التركية هي الغالبة عليها .
وثمة باحث آخر هو السيد موسى يرى ان اصولهم تركية وقد نشأوا في بلاد الاناضول ثم التصقوا فيما بعد بالشاه اسماعيل الصفوي واستقروا في منطقة الموصل بعد هزيمة الشاه من قبل العثمانيين في معركة قالديران واستدل على ذلك بأن كتابهم المقدّس والذي يسمى البيروق أو كتاب المناقب مكتوب باللغة التركية اضافة لوشائجهم المذهبية مع الطريقة البكتاشية والطرق الصوفية الاخرى ويبقى الاستدلال بكتاب البيرق تبسيطاً للأمر لايستقيم معه دليل قوي لأن المفردات الشبكية في الكلام تتوافق اغلب الأمر مع اللهجتين الكَورانية والهورمانية الكرديتين وكذلك يعوز الدليل عن عقيام اية اتصالات مباشرة أو غير مباشرة بين الشبك والطريقة البكتاشية .
.