المراقد الشريفة لآل بيت الرسول (ص) في لبنان
_____________________
المراقد الشريفة لآل بيت الرسول (ص)
بقلم
حسين أحمد سليم
مقام السيدة خولة بنت الإمام الحسين (ع)
المقدمة:
يعتبر لبنان مهد للحضارات ومنبع الديانات، فأينما وليت وجهك تجد الآثار الرائعة التي تدل على حضارة هذا البلد من الرومان والفينيق، وأينما ذهبت تجد مرقداً شريفاً لنبي هنا أو ولي هناك. فكل بقعة من بقاع لبنان الحبيب تطالعك الحضارة التي تشهد على أهمية هذا البلد الصغير بالمساحة ولكنه كبير بإرثه الحضاري والتاريخي والديني. فمن لبنان انتقل الحرف إلى العالم، ومن لبنان أبحرت سفن الفينيقيين حاملة خشب الأرز لتنقل معها حضارة هذا البلد الجميل إلى مختلف أنحاء العالم.
وموضوع بحثنا ليس الحديث عن الآثار التاريخية الشامخة، ولكن بحثنا حول نوع آخر من الآثار وهو الآثار الدينية وتحديداً المراقد الشريفة لأنبياء الله وأوليائه، والتي شرّف أصحابها وباركوا بأجسادهم الطاهرة أرض لبنان. فهناك مقامات كثيرة يزخر بها لبنان في الجنوب والبقاع والشمال وبيروت.
مقام السيدة خولة (ع)، وكون المقام يقع في منطقة بعلبك ارتأينا أن نتحدّث عن المقامات الموجودة في هذه المنطقة فقط، ونستثني بقية المقامات المنتشرة في باقي المناطق اللبنانية كي يبقى البحث ضمن إطاره الجعرافي، وكي لا نتوسع كثيراً فيفقد البحث رونقه التاريخي والجغرافي.
لذا سنتحدث وباختصار عن بعض المقامات الموجودة في منطقة بعلبك والبقاع، ونبدأ بمقام النبي شيث (ع).
مقام النبي شيث (ع):
هو ابن النبي آدم (ع), ويقع مقامه على المقلب الغربي لسلسلة جبل لبنان الشرقية في وسط البقاع، وفي بلدة سميت باسمه، جُدد المقام بعدما جار عليه الزمان بطريقة هندسية رائعة، حيث صار يضم مئذنتان وقبتان، ومسجدان وقاعة الزوار التي من ضمنها الضريح وقاعة للمحاضرات وباحة للزوار وغرف للمنامة ومسلخ للنذور والذبائح.. يأتي الزوار لزيارة المقام من مختلف المناطق اللبنانية، بل ومن كافة أنحاء العالم الإسلامي، ويصل أحياناً عدد الزوار يومياً إلى المئات وخصوصاً أيام الزيارات كزيارة النصف من شبعان*، وزيارة أربعين الإمام الحسين (ع)*.
مسجد رأس الحسين (ع) في بعلبك:
ويعتبر هذا المسجد معلماً من معالم بعلبك التاريخية والأثرية والدينية، بني هذا الجامع في العام 61 هـ في بعلبك ويُعرف أيضاً بالمسجد المعلّق لوقوعه وسط برك رأس العين، ويذكر أنه أقيم على أنقاض معبد وثني قديم. وهناك رواية لابن شهر آشوب تُرجع سبب بناء هذا الجامع لاكتشاف أهل بعلبك أن الجنود الأمويين الذين مروا ببعلبك بعد مجزرة كربلاء كانوا يسوقون سبايا آل الرسول (ص) ويحملون رأس الإمام الحسين (ع) فثاروا عليهم ولمّا لم يتمكنوا من أخذ رؤوس الشهداء عبّروا عن وفائهم ببناء مسجد في الموضع الذي وضعت فيه الرؤوس وأسموه مسجد رأس الحسين (ع)(1).
مقام النبي سام (ع):
يقع في بلدة شمسطار وهي بلدة بقاعية صغيرة في قضاء بعلبك تنتشر بيوتها على السفح الشرقي للسلسلة الغربية، وفيها مقام للنبي سام ابن النبي نوح (ع) وهو مقام متواضع ويحظى بالكثير من الزوار الذين يقصدونه للتبرك وإيفاء النذور.
مقام نبي الله أيلا (ع):
يبعد حوالي 16 كلم عن شتورا، ويقع وسط بلدة سميت باسمه وعلى تلة من أجمل المرتفعات في البقاع، ولدى زيارتنا لهذا المقام تفاجئنا بروعة المكان، حيث يمتد أمام ناظريك أجمل لوحة فنية صاغها الباري تعالى وسط بساتين من مختلف الثمرات والأشجار.. يتميز هذا المقام بقبته الخضراء العالية، بل ويعتبر تحفة بنائية مميزة.. يقصد المقام آلاف الزوار من كافة الأماكن للزيارة وإيفاء النذور، ويعتبر هذا المقام مقصداً ومحجاً للزوار من المسلمين والمسيحيين على السواء.
الكرك (قبر نوح) (ع):
تبعد الكرك 9 كيلو متر عن شتورا، وبلدة كرك نوح (ع) تقع عند سفح جبل صنين وترويها مياه نهر البردوني.. كانت مركزاً للحوزة الدينية.. فيها العديد من الآثار، ولعل أهمها مسجدها الأثري ومقام يقال أنه لنبي الله نوح (ع) أو لأحد أبنائه(2).
بعد هذه اللمحة الموجزة عن أهم المقامات الموجودة في منطقة بعلبك والجوار نصل إلى موضوع بحثنا وهو مقام السيدة خولة (ع).
بداية لا بدّ من التعرف على صاحبة هذا المقام الشريف.
من هي السيدة خولة (ع)؟
هي خولة ابنة الإمام الحسين (ع). قد يتساءل البعض ما الذي أتى بها إلى منطقة بعلبك؟ ولماذا يوجد قبرها في هذه المنطقة بالذات؟ وبإجابة مختصرة نقول: بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء. وفي اليوم الحادي عشر سبيت أخوات وبنات ونساء الإمام الحسين (ع) برحلة شاقة من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام. ومن الطبيعي أن الرحلة إلى الشام ستمر في بلاد ومناطق كثيرة، فركب السبايا سار من حلب وحماه وحمص مروراً بمناطق لبنانية مختلفة ومتعددة، وصولاً إلى بعلبك ومرجة رأس العين، حيث يوجد مسجد رأس الإمام الحسين (ع)، وكما هو معروف أن القوافل في السابق ونظراً للسفر الطويل في الصحاري كانت تتبع مجاري الأنهار والينابيع مخافة العطش ولسقاية الحيوانات التي معهم، وكما هو معروف بأن المنطقة الممتدة من حلب حتى البقاع غنية بالخضرة وأشجار الفاكهة والأنهار والينابيع، وبالذات منطقة البقاع وبعلبك. فخط سير السبايا إذاً كان لا بدّ أن يمر في هذه المناطق. وكما تروي السير الحسينية* بأن القافلة حطت برأس العين، ثم بدير يعرف بدير العذارى القريب من قلعة بعلبك الشهيرة. من هنا نعلم لماذا دفنت السيدة خولة في بعلبك وتحديداً بالقرب من قلعة بعلبك الشهيرة.
نعم شاء الله تعالى أن يقدّس هذه المنطقة بشذا عبير الطفولة الحسينية المباركة، والتي يقال أنها طفلة بعمر الثلاث سنوات، قد توفاها الله بهذه المنطقة بالذات نتيجة السبي والسير الطويل والعطش والتعب. وتروي السير أيضاً أنه وطوال فترة المسير هناك مراقد مشرّفة لآل الرسول وهذا دليل على الوفاة التي كانت تحصل نتيجة ما أصابهم من عذاب وعطش وجوع.. وقد خص الله منطقة بعلبك بوجود هذا المرقد الشريف من رائحة الإمام الحسين (ع) العطرة والذي يفوح عبيرها على أرجاء المنطقة بأكملها.
وربما قد يتساءل البعض أيضاً في أي سنة اكتشف قبر السيدة خولة (ع)، ومن هو الشخص الذي اكتشفه. فمن الثابت أن رجلاً من آل جاري صاحب البستان الذي يحوي قبرها الشريف رأى طفلة صغيرة جليلة في منامه، فقالت له: (أنا خولة بنت الحسين مدفونة في بستانك) وعينت له المكان وأمرته بالقول حوّل الساقية (ساقية مياه رأس العين) عن قبري لأن المياه تؤذيني. فالمياة كانت آسنة، لكن الرجل لم يلتفت للأمر، فجاءته ثانية وثالثة ورابعة حتى انتبه الرجل فزعاً من هذه الرؤى، فهرع عندها للاتصال بنقيب السادة من آل مرتضى في بعلبك وقصَّ عليه الرؤية، فذهب النقيب ومن حضر من الأهالي وحفروا المكان المشار إليه، وإذ بهم أمام قبر يحوي طفلة ما تزال غضة طرية، فأزاحوا البلاطات واستخرجوا جسدها المبارك ونقلوها بعيداً عن مجرى الساقية وبنوا فوقه قبة صغيرة للدلالة عليه.
وما إن ذاع صيت الحادثة التي يعود عمرها لمئتي عام تقريبا حتى توافد إلى زيارة المقام محبّوا أهل البيت (ع) حتى ضاق بهم المكان، فأصبح مشهدها المبارك مزاراً يأتيه العوام من مختلف المناطق والأطراف والبلاد لا سيما أيام عاشوراء والأربعين والجمعات والأعياد والمناسبات (3).
كذلك ولدى زيارتنا لمدينة بعلبك سألت أحد الأشخاص عمن اكتشف المقام فروى هذه الرواية أيضا وأكدها، مما يدل على أنها من المرويات الثابتة والمتواترة لدى سكان المنطقة، وأخبرنا أن اكتشاف المقام يعود لمئتي سنة ماضية ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المرقد الشريف مزاراً للمؤمنين من مختلف المناطق اللبنانية والبلاد العربية.
موقع المقام الجغرافي:
يقع مقام السيدة خولة على قطعة أرض (تبلغ مساحتها حوالي الألف وخمسمائة متر مربع) عند المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك ومقابل مصرف لبنان، وهي أول ما يطالعك في هذه المدينة وقلعتها، ويحيط بالمقام الذي يُبنى اليوم بأرقى هندسة الأشجار الصنوبرية والحرجية، ووسط بناء المقام شجرة سرو معمِّرة ونادرة عمرها يربو على مئات السنين، وقيل إنها واحدة من الأشجار التي زرعت مع بناء القلعة، وعشعش في تلك الناحية العصافير ما يضفي على المقام بهجة ورونقاً نادرين، وهذا المكان قد سجّل في مديرية الآثار لما يمتلكه من قيمة أثرية إضافة إلى قيمته الدينية والمعنوية، ويعتبر المكان حجاً للزوار من كافة المناطق اللبنانية، وذاع صيت المقام وكرامة صاحبته التي كانت ضمن ركب السبايا إلى الأمصار العربية والإسلامية. فصرتَ تجد القاصدين لزيارتها من سوريا وإيران ودول الخليج والدول الإسلامية الأخرى(4).
وصف المقام وتطوره العمراني:في إطلالة على وصف المقام وتطوره العمراني نلاحظ أن المقام كان عبارة عن بناء حجري مربع (غرفة) طول ضلعه ستة أمتار يحوي الضريح الشريف الذي يضطجع في الزاوية الشمالية الغربية على يمين الداخل، وقد أقيم فوقه صندوق خشبي مزخرف بآيات قرآنية وأشكال هندسية يفوح منها شذا القداسة وعطر النبوة، وللمقام جدران سميكة تحمل أربعة عقود حجرية مقوّسة تعلوها قبة حجرية صغيرة، وقد توسط محراب بسيط الجدار الجنوبي، وتشير البلاطات الخارجية إلى وجود مسجد صغير كان بإزاء المزار الذي تظلله شجرة سرو قديمة العهد المعروفة بنموها البطيء وباخضرارها الدائم. وقد قيل عنها أنها إحدى الشجيرات اليتيمات التي كانت ضمن الجنائن الرومانية الشهيرة والتي كانت محيطة بالمعابد الرومانية في العصر الروماني (64 ق.م. عام 330 م). وقيل أيضاً: إنها زرعت للدلالة أو العلامة وكأن حولها أو قربها شيئاً مقصوداً، إذ يتردد بين العوام أن الإمام زين العابدين (ع) أمر بزرعها للاستدلال من خلالها على ضريح السيدة خولة (ع) (5).
__________________