البقية
كرمه (عليه السلام):
وكان من خلقه أ نّه كان كريماً ولاحدود لكرمه، ولكنّه الكرم السليم باُصوله وغاياته لا كرم الولاة الذين «يكرمون» بأموال الناس وجهودهم. وهذا الكرم لم يعرفه عليٌّ مرّة في حياته، وإنّما كرمه هو الذي يعبّر عن جملة المروءات، ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذ هي استعارت من بيت المال قلادة تتزيّن بها في عيد من الأعياد. كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتى تمْجلَ يده فيتناول اُجرته فيهبها لأهل الفاقة والعوز ويشتري بها الأرقاء ويحرّرهم في الحال.
وقد شهد معاوية على كرم عليّ قائلاً: لو ملك عليّ بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه(19).
علمه ومعارفه (عليه السلام) :
قال ابن أبي الحديد: «وما أقول في رجل تُعزى اليه كلّ فضيلة، وتنتمي اليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلْبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى.
وإنّ أشرف العلوم ـ وهو العلم الالهي ـ ، من كلامه (عليه السلام) اقتبس وعنه نقل واليه انتهى ومنه ابتدأ... وعلم الفقه هو أصله وأساسه وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه... وعلم تفسير القرآن عنه اُخذ ومنه فُرّع.. وعلم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف(؟!) إنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام اليه ينتهون، وعنده يقفون.. وعلم النحو والعربية قد علم الناس كافة أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعَه واُصولَه...»
ثم قال: «وأمّا الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين)، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة.. فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالةً على أنّه لا يجارى في الفصاحة ولا يُبارى في البلاغة...»
ثم قال: «وأمّا الزهد في الدنيا فهو سيّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تُنْفَضُ الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشنَ الناس مأكلاً وملبساً».
وأمّا العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على وِرده أن يُبسَط له نِطَعٌ بين الصفّين ليلةَ الهرير(20) فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صِماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته... وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمّنه من الخضوع لهيبتهِ والخشوع لعزّته والاستخذاء له; عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جَرَت. وقال عليّ بن الحسين وكان الغاية في العبادة: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأمّا قراءته القرآن واشتغاله به فهو المنظور اليه في هذا الباب; اتّفق الكلّ على أنّه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن غيره يحفظه، ثمّ هو أوّل من جمعه. وإذا رجعت الى كتب القراءات وجدت أئمّة القرّاء كلّهم يرجعون اليه.
وما أقول في رجل تحبّه أهل الذمّة على تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة، وتصوِّر ملوك الإفرنج والروم صورته في بِيَعها وبيوت عباداتها، حاملاً سيفه؟ وما أقول في رجل أحبّ كلُّ واحد أن يتكثّر به، وودّ كلُّ أحد أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه؟
وما أقول في رجل سبق الناس الى الهدى.. لم يسبقه أحد الى التوحيد إلاّ السابق لكلّ خير محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(21)؟
ـــــــــــــــــــ
1- مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 3 .
2- مناقب آل أبي طالب: 2/361 ط دار الأضواء.
3- راجع: مقدمة شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم.
4- نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح : 510 الحكمة 237 ط دار الهجرة قم.
5- بحار الأنوار: 77/236 باب وصيّة أمير المؤمنين(عليه السلام) ط الوفاء.
6- بحار الأنوار : 40/334 ط الوفاء.
7- المصدر السابق : 40/327.
8- المصدر السابق : 40/331 باب 98 ذ ح 13 ط الوفاء.
9- نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: 418 الكتاب 45 .
10- نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: 323 ، الخطبة 206.
11- البداية والنهاية: 7 / 276.
12- نهج البلاغة، الخطبة : 200.
13- نهج البلاغة، قصار الحكم: 458.
14- نهج البلاغة، الخطبة: 224.
15- نهج البلاغة، قصار الحكم: 479.
16- المصدر السابق: 480
17- المصدر السابق من كتاب 31 رقم 57.
18- نهج البلاغة : 117.
19- تاريخ دمشق لابن عساكر : 43/414 ترجمة علي بن أبي طالب(عليه السلام).
20- هي أشد ليلة مرّت على الجيشين في معركة صفّين، راجع مروج الذهب : 2 / 389 .
21- من مقدمة ابن أبي الحديد لشرح نهج البلاغة 1 / 16 ـ 30 تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.
اسم المؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (ع).