الحـروب الصـليبيـة (
: الحمـلة الصليبية السادسة
بعد فشل الحملة الصليبية الخامسة اضطربت أحوال الصليبيين في الشام ووقع بينهم من الخلاف ما زعزع مكانتهم وما جعل بعضهم يتجه إلى أوروبا والبابا من جديد طالبين حملة صليبية تعزز وجودهم في الشام .
وقد كان نزاع حاد قد نشأ بين البابوية والإمبراطورية في غرب أوروبا ، وقد استمر هذا النزاع قرنين من الزمان على وجه التقريب ، وكان سببه التنافس بين السلطتين الدينية والعلمانية في أوروبا .
ومن أجل هذا الصراع بين الكنيسة والسلطة العلمانية لم تحدث استجابة لطلب الصليبيين في الشام بعد فشل الحملة الخامسة على مصر .
فإذا أضفنا إلى تلك الأحداث أحداثاُ أخرى جرت للمسلمين وبالتحديد لأبناء العادل : الكامل والمعظم والأشرف أبناء أخي صلاح الدين وما وقع بينهم من خلاف حاد أوشك على التحارب والتقاتل ، بل دخلت فيه فعلاً حرب مرئية وأخرى غير مرئية .
بالإضافة إلى خطر خارجي أخذ يهدد الدولة الأيوبية من الخوارزميين الذين شتتهم جنكيز خان ، فتجمعوا في أصفهان وأخذوا يهددون الشام والعراق ، كل ذلك جعل الملك الكامل يستعين بالإمبراطور فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا للتغلب على متاعبه الداخلية مع أخويه ، والخارجية مع الخوارزميين في مقابل أن يتنازل له عن بيت المقدس وكل ما حققه صلاح الدين من انتصار في حطين .
وقبل فردريك الثاني هذا العرض وتجهز وأعد جيشاً لمساندة الملك الكامل ضد الخطرين اللذين يهددانه .
وفي ذات الوقت أخذ البابا هنريوس الثالث يلح على الإمبراطور فردريك الثاني ليعد حملة صليبية للشرق تستعيد هيبة الصليبيين والكنيسة هناك .
ولما مات البابا هنريوس الثالث خلفه جريجوري التاسع وأخذ يلح كذلك من أجل أن يقوم الإمبراطور بهذه الحملة ، فأبحر الإمبراطور من برنديزي جنوب إيطاليا قاصداً بلاد الشام ، ولكنه عاد مدعياً المرض ، فاعتبر البابا هذه العودة نكوصاً فأصدر ضده قرار الحرمان فخشي الإمبراطور غضبة البابا فخرج قاصداً عكا ، وكان جزء كبير من جيشه قد سبقه إلى بلاد الشام .
وكان فردريك لا يحب أن يدخل في حرب مع المسلمين لأسباب كثيرة ربما كان منها عناده للبابا وكراهيته للكنيسة ، وربما كان منها حبه للمسلمين والإسلام بحكم نشأته في صقلية المسلمة .
وكانت حملة فردريك هي الحملة الصليبية الملعونة من الكنيسة ، وأخيراً وصل رجال الإمبراطور إلى عكا في 625هـ بينما تخلف الإمبراطور في قبرص ، فخابت آمال الكنيسة والصليبيين والملك الكامل في حملة فردريك ، وعندما وصل فردريك إلى عكا في أخريات عام 625هـ بهدف الحصول على بيت المقدس من الملك الكامل مقابل حمايته من أخيه المعظم وجد المعظم قد مات والكامل قد أمن من الشر ، وأصبح فردريك في حرج من أمره ، وكذلك الملك الكامل ، فالكامل لا يود أن يحارب الصليبيين في هذه الظروف القلقة داخلياً وفردريك ما خرج ولا استعد لحرب المسلمين وإنما لحماية الكامل في مقابل بيت المقدس دون حرب ، ولو فكر في الحرب فلن يستجيب الصليبيون له وهو محروم من الكنيسة ، فلم يجد أمامه إلا أن يفاوض ويستعطف ليأخذ بيت المقدس فيعزز مكانته في أوروبا كلها ، وبلغ من استعطافه أن كتب للسلطان الكامل : ( أنا مملوكك وعتيقك ، وليس لي عما تأمره خروج ، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر ، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي ، فإن رجعت خايباً انكسرت حرمتي بينهم ، وهذا القدس فهي أهل اعتقادهم وضجرهم ، والمسلمون قد أخربوها فليس لها دخل طائل ، فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر ) .
ومن عجب أن وافق الكامل وأجاب فردريك إلى ما طلب وعقد معه اتفاق يافا سنة 626هـ وفيها هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنين ، ويأخذ فردريك بيت المقدس ، ولكن لا يجدد سور القدس ، وتكون قرى القدس للمسلمين لاحكم فيها للفرنج ، وأن يكون الحرم كله بأيدي المسلمين وليس للفرنج إلا الزيارة .
وبدموع فردريك واستعطافه حقق ما عجز عنه ملوك الفرنج وأمراء الصليبيين منذ انتزع صلاح الدين القدس منهم .
وقد كان لذلك أسوأ الأثر في نفوس المسلمين حتى إنهم أقاموا المآتم وقالوا المراثي في القدس ، وذهب فردريك إلى بيت المقدس وتوج نفسه لأن الكنيسة رفضت أن تتوجه ، وعندما زار فردريك المسجد الأقصى علم أن السلطان الكامل أمر المؤذنين بعدم إقامة الأذان طيلة وجود الإمبراطور في المدينة فاستاء فردريك لذلك وقال للقاضي شمس الدين : ( أخطأت فيما فعلت ، والله إن أكبر غرضي في البيت المقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل ) .
ثم إن فردريك رأى قسيسا ًبيده الإنجيل يهم بدخول المسجد الأقصى من الفرنج فزجره الإمبراطور وطرده ، وهدد كل من يدخل المسجد الأقصى من الفرنج بغير إذن وقال : ( إنما نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده ، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه ، فلا يتعدى أحد منكم طوره ) .
ثم ذهب فردريك إلى يافا ثم غادرها إلى عكا تاركاً بيت المقدس ، وكانت عكا تعيش صراعاً بين الصليبيين الذين فيها ، وحاول فردريك أن يبرر أعماله أمام رجال الدين ولكنه عورض .
وكان البابا قد أمر جيوشه بالاعتداء على أراضي فردريك وممتلكاته في إيطاليا وساعده في ذلك حموه حنا برين ، فوجد أن مصالحه تقتضي أن يغادر عكا ويتجه إلى مملكته ، فرجع إلى لإيطاليا .
وهكذا انتهت الحملة الصليبية السادسة وقد أخذت بيت المقدس هدية من الملك الكامل الذي ضيع جهد عمه صلاح الدين في الاستيلاء عليه
الحـروب الصـليبـية (9) : الحمـلة الصليبية السابعة (1)
منذ عقد الملك الكامل صلح يافا مع فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا ، وشؤون البيت الأيوبي في اضطراب .
وقد أحس الصليبيون بذلك ، بخاصة الاسبتارية فأغاروا على منطقة بعرين سنة 627هـ ونهبوا البلاد وقتلوا وأسروا وسبوا .
وكان الملك المظفر صاحب حماة غير مستعد للدخول معهم في حرب فقبل أن يدفع لهم مبلغاً من المال ، ولما لم يستطع الوفاء بما وعد تجمع الاسبتارية والداوية في قوة كبيرة ، وهاجموا الملك المظفر ، فاشتبك مهم في معركة عند أفيون بين بعرين وحماة وأنزل بهم هزيمة منكرة سنة 628هـ وساق أمامه الأسرى .
وفي سنة 630هـ رغب الاسبتارية في الحصول على أموال فرضوها على المظفر فاستعانوا بجميع قوى الفرنجة مثل الداوية وإمارة أنطاكية وطرابلس ومملكة بيت المقدس وصليبي قبرص ، ثم زحفوا على حصن بعرين ليلاً ، فاحتلوا البلد واستعصت عليهم القلعة وعادوا بأسلاب وأموال كثيرة دون أن يصطدموا في حرب مع المسلمين .
وقد كان الأيوبيون في ذلك الوقت مشغولين بمناوأة علاء الدين كيقباد سلطان سلاجقة الروم الذي استولى عل خلاط .
وفي هذه الفترة كان الداوية يحتلون حصن بغراس بينما كان الأيوبيون يسيطرون على حصن ردبساك وبين الحصن مسافة قصيرة ، مما كان يجدد الاشتباكات بين الطرفين ، ويولد الرغبة عند كل طرف في الاستيلاء على حصن الطرف الآخر .
فأغار الداوية على حصن دربساك سنة 634هـ ولكن المسلمين قاوموهم ووصلت للمسلمين قوة من حلب فاستطاعوا التغـلب عل الداوية وقتلوا معظمهم وأسروا عدداً منهم .
ودارت بين الأيوبيين أنفسهم معارك عديدة تغلبوا بعدها - إلى حد ما - على انقساماتهم الداخلية ، وحاربوا علاء الدين ثم حالفوه ، وحاربوا الخوارزمية ومعهم حليفهم علاء الدين حتى قضوا عليهم وأجلوهم عن خلاط ، ثم حاربوا علاء الدين ثانياً .
ثم توفي الملك الكامل سنة 635 هـ بعد قضائه على مؤامرة من إخوته تستهدف القضاء عليه وخلفه في حكم مصر ابنه الصالح أيوب ، وطمع الصليبيون في خلافات الأيوبيين فدعت البابوية إلى حرب صليبية فاستجاب لها عدد من أمراء فرنسا وأعدت حملة بقيادة ( ثيبوب الرابع ) وصلت إلى عكا ، وكان الناصر داود صاحب الأردن قد استطاع أن يستولي على بيت المقدس من الصليبيين لأنهم نقضوا الهدنة وحصنوها ، وعندئذ فكر قواد الحملة الصليبية الفرنسية في مهاجمة بيت المقدس أو دمشق أو مصر أو عسقلان ، واختلفوا ثم هاجموا عسقلان ، واستولوا في طريقهم إليها على قافلة من المسلمين ، واتجهوا صوب غزة لملاقاة جيوش سيرها ضدهم العادل الثاني ، فلقوا هناك هزيمة منكرة وعادت فلولهم خائبة إلى عكا .
ولكن الصالح إسماعيل تصاحب دمشق تحالف مع الصليبيين ضد بقية أمراء بني أيوب ، وفي مقابل ذلك سلمهم القدس وعسقلان وطبرية ، وذلك في إثر عزل العادل الثاني وتولية الصالح أيوب أمور مصر في 637 هـ ، وثار الناس بقيادة العز بن عبد السلام على الصالح إسماعيل وانحازوا مع المصريين ضد الصليبيين وهزموهم هزيمة منكرة .
وعادت الحملة الفرنسية إلى بلادها بعد أن عقدت هدنة مع الصالح أيوب ، وما إن عادت حتى جاءت حملة إنجليزية إلى عكا بقيادة ( ريتشارد كورنوول ) أخو ملك إنجلترا ، واتجه إلى تحصين عسقلان ، وكان هدفها تثبيت عمل ( ثيبوب ) وإتمامه ، ثم قفل راجعاً إلى بلاده .
وفي سنة 642هـ استعان الصالح أيوب بالخوارزمية ضد أقربائه الذي تحالفوا مع الصليبيين لغزو مصر ، فاندفع الخوارزمية نحو الشام واستولوا على قرى كثيرة ، واتجهوا نحو الجليل واستولوا على طبرية ونابلس ، ثم استولوا على بيت المقدس في صفر سنة 642هـ ، وقضوا على كل معالم النصرانية فيها وطردوا منها الصليبيين إلى غير رجعة .
واستطاع الخوارزمية مشتركين مع المصريين بقيادة ركن الدين بيبرس أن يهاجموا الصليبيين ومن حالفهم من منافقي المسلمين في غزة سنة 642هـ ، وأن يوقعوا بهم هزيمة نكراء كانت أعظم كارثة حلت بالصليبيين بعد حطين حتى سماها بعض المؤرخين ( حطين الثانية ) .
وفي سنة 645هـ استطاعت جيوش الصالح أيوب أن تستولي على قلعة طبرية من الصليبيين ، وفي نفس العام على عسقلان ، وأصبح الصالح أيوب يسيطر على مصر والشام وبيت المقدس ، وفيه جاء ملوك البيت الأموي لتقديم الولاء والطاعة .
وحاول بطريق القدس أن يستقدم حملة صليبية بإلحاحه المستمر غير أنه لم يوفق بسبب الخلافات التي بين الأوروبيين أنفسهم
الحـروب الصـليبـية (10 ) : الحملة الصليبية السابعة (2)
كان لويس التاسع ملك فرنسا مريضا ًآنذاك ، فنذر إن شفي أن يشن حملة على المسلمين ، فلما شفي أخذ يستعد طيلة ثلاث سنوات ، ثم أبحر قاصداً الشرق ومعه زوجه وأخواه : روبرت وشارل عام 646هـ، وكن هدف هذه الحملة توسيع النفوذ الفرنسي ، واتجهت نحو مصر ، وتوقفت في قبرص لتجمع الجنود والإمدادات والسفارات مع المغول ونصارى المنطقة .
ثم تحركت الجيوش إلى دمياط ، وكتب لويس إلى الصالح أيوب : ( إن مسلمي الأندلس يحملون إلينا الهدايا ، ونحن نسوقهم سوق البقر ، ونقتل الرجال ، ونرمل النساء ، ونستأسر البنات والصبيان ، فلو حلفت لي بكل الأيمان ودخلت على القسوس والرهبان ، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان ما ردني ذلك عن الوصول إليك ) ، فرد عليه : ( فلو رأت عيناك أيها المغرور حد سيوفنا ، وعظم حروبنا ، وفتحنا منكم الحصون والسواحل ، وإخراجنا منكم الديار الأواخر والأوائل ، لكان منك أن تعض على أناملك للندم ) .
ووصل لويس إلى دمياط ، ودارت معركة رهيبة ، وكانت الغلبة للصليبيين لكثرة عددهم ، واتجه الجيش الأيوبي إلى أشموم طناح ، تاركاً دمياط لهم ، وخرج من دمياط أهلها وحاميتها ، بعد أن أشعلوا النار في سوقها ، وتملكها الصليبيون .
ثم بقي الصليبيون في دمياط خمسة أشهر في انتظار مدد من أوروبا ، وكان الصالح أيوب ينظم الدفاع من فراش الموت .
ووصل ألفونس أخو لويس ومعه المدد ، وقرر الصليبيون الزحف على القاهرة ، وفي اليوم التالي من زحفهم توفي الصالح أيوب ، فأخفت زوجه شجرة الدر نبأ موته من أجل المعركة ، وجمعت الأمراء والقواد وأخذت منهم البيعة لتوران شاه ابن الصالح أيوب ، وأرسلت في إحضاره من حصن كيفا ، وكانت المراسيم تصدر باسم السلطان الميت .
وعرف الصليبيون خبر الوفاة ، فأسرع لويس في الهجوم على القاهرة عن طريق الدلتا ، ولكن المياه حاصرتهم ، وهاجمهم الأمير فخر الدين ، فتعرقل سيرهم ، ووقع عدد منهم في الأسر .
وأدرك لويس أنه عاجز عن العبور إلى المنصورة ، والمسلمون أمامه على الضفة الأخرى للنهر ، واستطاعوا مع ذلك العبور عن طريق سلمون بمعاونة نصارى مصر ، فتصدى لهم الأمير فخر الدين ثانية .
وعبر روبرت مع مقدمة الجيش الصليبي ، وبادر باقتحام المنصورة ومعه الملك لويس ، غير أن جيوش المسلمين بقيادة بيبرس البندقداري انقضوا على الصليبيين فزعزعوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل روبرت نفسه ، وقتل من الداوية أكثرهم ، وهزت الصدمة لويس فأقام على النيل جسراً ليعبر عليه النيل تداركاً للموقف إلا أن الجيوش المسلمة هاجمت معسكره ، وقاوم لويس طوال اليوم ، وعادت جيوش المسلمين إلى المنصورة .
ثم حضر توران شاه إلى مصر ففرح به المسلمون ، وفكر لويس في التراجع عن القاهرة إلى دمياط غير أن المسلمين كانوا قد قطعوا على الصليبيين بسفن أعدها توران شاه ، واستولت تلك السفن على سفن الإمدادات الصليبية ومن كان فيها ، وانتصرت السفن الإسلامية عليها في ثلاث معارك .
وقرر لويس التراجع إلى دمياط وما إن وصلوا إل فارسكور حتى هاجمهم المسلمون ، ودارت معركة رهيبة وقع فيها الجيش الصليبي ما بين قتيل وأسير، حتى لويس نفسه سيق مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة حيث سجن في دار ابن لقمان ، ووضع توران شاه من الشروط ما شاء لتسليم لويس وأسراه ، واتفق على أن تسلم له دمياط ، وأن تعقد هدنة مدتها عشر سنوات ، ووافق لويس التاسع .
وقبل أن تتم المعاهدة دبر المماليك البحرية وشجرة الدر لقتل توران شاه لسوء سيرته وظلمه فقتلوه ، واستولت شجرة الدر على الحكم ، ثم تزوجت عز الدين أيبك وصار هو السلطان على مصر ، وأخذ يحكم مصر والشام منذ ذلك الحين نظام حكم جديد يتولاه المماليك .
ونفذوا المعاهدة مع لويس التاسع بعد أن أضافوا ما يرون ، وتسلموا دمياط في 6 مايو سنة 1250م ، وغادرها لويس منسحباً عام 652هـ فوصل إلى عكا ، وحاول أن يصنع شيئاً للصليبيين في الشام فلم يستطع ؛ إذ حاول أن يتفق مع الأيوبيين في الشام ضد المماليك في مصر فلم يوفق .
وهكذا انتهت الحملة الصليبية السابعة دون أن تحقق شيئاً مما كانت تطمع فيه .
التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 6/337، والغزو الصليبي والعالم الإسلامي