الإمام الأصفهاني: مرجعية منفتحة وقيادة مجاهدة
أبو الحسن محمد بن عبد الحميد بن محمد الموسوي الأصفهاني، أحد علماء الإمامية، ولد في قرية "مديس" في أصفهان 1284هـiتلقى دروسه الأولى في مسقط رأسه، ثم رحل عنها وهو في أوائل العقد الثاني من عمره إلى أصفهان، فدرس على يد أبرز علمائها أمثال الشيخ محمد الكاشاني، حتى أتم مرحلة السطوح، وبدأ بحضور البحث الخارج].
هاجر بعدها إلى النجف الأشرف سنة 1308هـ، فحضر درس الميرزا حبيب الله الرشتي في الفقه، وبقي مواظباً على درسه حتى وفاة الميرزا، ثم لازم الأخوند الخراساني، فحضر دروسه في الفقه والأصول حتى وفاته سنة 1329هـ].
استقل بالتدريس بعد وفاة أستاذه الآخوند، فاشتهر، وأخذت الأنظار تتجه إليه كمجتهد كبير ومرشح بارز للمرجعية الدينيةومن المفيد الإشارة أنه لا يمكن فصل حركة الأصفهاني وغيره من العلماء عن حركة المرجعية التي واجهت التطورات والأحداث التي عصفت بالمنطقة آنذاك، بحيث شكلت حركة الأصفهاني حلقة من ضمن السلسلة الحركية للمرجعية وشارك سماحته فيها مشاركة فعالة وقاوم الغزو البريطاني للعراق 1333هـ/ 1914م، ليدخل بذلك العراق في صلب المعركة، فانطلقت شرارة المقاومة لهذا الغزو من النجف الأشرف تلبية لحالة الجهاد التي أعلنتها المرجعية، وقد توجت تلك الحركة انتفاضة النجف 1337هـ، 1918م
ثورة العشرين:
ولم تمض سنتان على انتفاضة النجف حتى انفجرت ثورة العشرين الكبرى 1339هـ، 1920م، وخضع لبنان وسوريا وفلسطين وغيرهما من البلاد العربية والإسلامية للانتداب الفرنسي والبريطاني وما لبثت أن سقطت الأجزاء الشمالية من إيران للاحتلال الروسي في سنة 1920م، ولذلك تصدت المرجعية لهذا الاحتلال وأعلنت فتاوى الجهاد ضد المحتلين].
وقد تراوحت الأقوال في شأن موقف المرجعية من تلك الحوادث التي عصفت بالأمة في أوائل القرن العشرين، فمن قائل بأن المرجعية طرحت مشروعها السياسي البديل عن الاحتلال، والذي يتمثل بإقامة دولة عربية يرأسها "ملك" مسلم مقيد "بمجلس تمثيلي"، وملخص الفكرة المرجعية بحسب هذا الرأي يقوم على أساس مزدوج: العروبة والإسلام، من دون قصد المعنى الإيديولوجي الكامل لأي منهما، فلم يقصد من العروبة المشروع القومي، كما لم يقصد من الإسلام النظام الإسلامي، بل اقتصر الأمر في الدفاع عن الهوية الإسلامية وحمايتها من الضياع، والتي تتمثل رفضاً للتتريك وسلطة الانتداب في آن معاً.
ولكن هناك رأي آخر يقول إنّ ثورة العشرين التي انفجرت في وجه الاحتلال الإنكليزي بتوجيه وقيادة علماء النجف وكربلاء إنما كان الهدف منها إقامة حكومة إسلامية في العراق متحررة من السيطرة الأجنبية، ولتحقيق ذلك رفعوا نداء الوحدة بين السنة والشيعة، ودعوا إلى التآزر وشد أواصر التلاحم بين مختلف شرائح المجتمع من عرب وأكراد فضلاً عن القبائل العربية
وربما تكون المرجعية المتمثلة آنذاك بالشيخ محمد تقي الحائري الشهير بالشيرازي قد عبّرت عن أهداف الثورة الحقيقية، وذلك عندما حاولت السلطات البريطانية تعيين حاكم بريطاني على العراق بشكل ثابت ودائم على أن يكون مستشاروه من العراقيين، أطلق فتواه:"ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للإمارة على المسلمين" ولما تمادى الإنكليز في غيّهم ونهبهم لثروات العراق أصدر سماحته فتوى ثانية أوجب فيها على كل العراقيين استعادة ثرواتهم، وهذا نص فتواه:"مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز قبول مطالبهم".
وسار السيد الأصفهاني على خطى سلفه في شحذ العزيمة وثبات الموقف على القتال والجهاد في سبيل الاستقلال، فحمل السلاح في ثورة العشرين في العراق، وذهب مع المجاهدين إلى ساحة المعركة، ثم عاد إلى النجف الأشرف بإلحاح من زعماء الثوار ، ولم يقتصر دوره على العراق فحسب بل شارك في الهيئة التي شكلت لتولي مهام الإعداد والتخطيط للعمل الجهادي ضد الجيوش الروسية إبّان احتلالها لشمال إيران 1329هـ/1920م.
المطالبة بالاستقلال التام للعراق:
ومع تصاعد الثورة التي أخذت تتخطى مناطق الجنوب العراقي لجأ الاحتلال البريطاني إلى أسلوب المناورة لتقويض الثورة، فأبدى للسيد الأصفهاني النية عن تقديم بعض التنازلات وإعطاء العراقيين بعض المطالب الهامة داعياً إياه للتفاوض حولها لكن الأصفهاني رد على هذه الدعوة بالرفض الحاسم لأي مفاوضة لا تتم على أساس الاستقلال التام للعراق موحداً بكل أراضيه، خاصة وأن البريطانيين قد أعدوا مشاريع عدة لتقسيم العراقعجز البريطانيون عن تطويع الثوار الذين أجبروا الاحتلال على الدخول في مفاوضات معهم، وفي الوقت نفسه كانوا يستعدون للقتال، وأخيراً رضخ الإنكليز لمطالب الثوار، حتى إنهم قاموا بإعطائهم ثمن البنادق التي طلبوها كجزء من شروط التفاوض
ولكن هذه الثورة لم تحقق أهدافها، وربما يعود ذلك إلى حالة الإنهاك التي لحقت بالمجتمع العراقي، فضلاً عن عدم رسوخ فكرة الجهاد في أذهان أكثر شيوخ القبائل المساهمة في الثورة وبذلك تمكن الإنكليز من إقصاء المرجعية عن دورها، ولعل ما كتبه مسؤول بريطاني في هذا الشأن هو أفضل تعبير عن حقيقة ذلك "إن للأجيال اللاحقة من ساسة العراق أن يقدروا الجميل الذي يدينون به للبريطانيين في إنقاذهم من النجف"، ليتواصل دور الإنكليز المتنامي إلى: تشكيل نخب علمانية متغربة، إكمال الاحتلال، تشكيل الحكومة المؤقتة، تنصيب الملك فيصل.
وبعد ثورة العشرين واصلت المرجعية المتمثلة بالأصفهاني والنائيني دورها المقاوم للانتداب، فرفضت البيعة للملك فيصل الأول، الذي عينه الإنكليز ملكاً على العراق ما لم يتحقق الاستقلال التام والناجز للعراق مسبقاً
حرمة المشاركة في الانتخابات:
كما أنه أفتى بحرمة المشاركة في الانتخابات الرامية إلى تأسيس مجلس نيابي، ما لم تلغ المعاهدة والانتداب البريطاني على العراق، ولم يتوقف الأمر على المعارضة الكلامية فحسب بل خرج على رأس مجموعة من علماء النجف في تظاهرات بعد سقوط الحكومة آنذاك، وقيام عبد المحسن السعدون من تشكيل حكومة جديدة، احتجاجاً على الوضع الذي كانت تعيشه العراق في ذلك الوقت، ولذلك قررت السلطات العراقية المدعومة من الإنكليز اعتقال المشاركين، فاعتقل أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا النائيني والشيخ مهدي الخالصي وعدد آخر من كبار العلماء وأبعدوا إلى خارج العراق (إيران).
وبعد أشهر معدودة قرر الزعيمان الشيخ النائيني والسيد أبو الحسن الأصفهاني العودة إلى العراق، وذلك بعد مداولات مع الحكومة العراقية التي اشترطت عليهما اعتزال السياسة.
ثورة التنباك:
هذا الدور المرجعي الذي كان غاية في الأهمية، والذي واكب المشروع الإسلامي منذ انطلاقته الأولى منذ ما عرف بثورة التنباك سنة 1891م، والتي استطاعت ببضع كلمات أن تهز عرش الشاه. لم تلبث بعد عقدين ونيف أن فقدت بريقها، وبأمر من موظف صغير تابع لسلطة الانتداب أن يرّحل أعلام الحوزة العلمية، وهذا ما جعل الأمر محطة استغراب لدى كثير من الأوساط وأصبح مدار جدال وتساؤل عن الدور المرجعي في قضايا الأمة].
فساق البعض ذلك إلى أن المرجعية لم تستطع أن تنفذ إلى عمق المجتمع لتؤسس حركة مقاومة عقائدية، إنما انحسرت على السطح، فكانت هذه الانتكاسة، وردها آخرون إلى تفاوت أدوار الحضارة، حيث دخل المجتمع الإسلامي المعركة مع الغرب وهو في تهافت الدورة الأخيرة من حضارته الإسلامية وذبولها، مثقلاً بتراكمات بعد ثورة العشرين على أثر اعتراضها على إجراء انتخابات نيابية في ظل الاحتلال البريطاني
تفرغه للتربية والتعليم:
ابتدأ السيد الأصفهاني بعد عودته إلى العراق فترة جديدة من حياته اتسمت بالعمل الثقافي والاجتماعي والتأكيد على الجانب التعليمي، حيث قام بتأسيس العديد من المدارس الدينية في بغداد والنجف والبصرة وكربلاء، وكان يرعى ويساند مدارس ومؤسسات، جمعية "منتدى النشر" التي تأسست سنة 1353هـ/1935م
انحصرت المرجعية الدينية فيه بعد وفاة الميرزا النائيني الذي شاطره همومها، فشيد جهازاً مرجعياً واسعاً استوعب أربعة آلاف وكيل موزعين على مناطق العراق المختلفة، وقد اهتم بالتبليغ الإسلامي اهتماماً كبيراً فأرسل العلماء إلى مختلف الأقطار الإسلامية والقيام على نفقتهم كاملة، وذلك بعد أن أوصاهم أن لا يقبلوا من أحد شيئاً، وبلغ من عظيم اهتمامه بذلك أنه كتب للتركمان الشيعة في العراق رسالة عملية بلغتهم وأرسل إليهم المرشدين والمبلغين
كما أنه عمل لأجل تسهيل عمله التبليغي في نشر الإسلام إلى استمالة الرؤساء من خلال الهدايا، ومما يؤثر له محاربته البدع والانحرافات في المجتمع، وكان له في هذا الشأن موقف حازم من نصرة السيد محسن الأمين وتأييده حتى أصابته بعض السهام التي رمي بها السيد الأمين
وفي سياق حركته الاجتماعية وواجبه تجاه الناس قام السيد الأصفهاني بحركة تواصل مباشرة مع الناس، فتفقدهم في بيوتهم واعتنى بهم من الناحية الصحية فكان يوفد الأطباء إلى معاينة المرضى في مختلف المناطق التي يتواجد فيها أطباء حاذقون.
وفي المحصلة كان السيد الأصفهاني شخصية فذة وعبقرية نادرة ويداً سخية، ذا عقل راجح ومكانة علمية عالية في الفقه والاجتهاد، ومصلح كبير في المجتمع بعيد النظر وحسن التدبير، وما حازه من الرياسة العامة كان عن جدارة واستحقاق.
توفي في الكاظمية في التاسع من ذي الحجة 1365هـ/ ودفن في النجف الأشرف.
له عدة مؤلفات من أهمها: أنيس المقلدين، حاشية العروة الوثقى، ذخيرة العباد ليوم الميعاد، صراط النجاة، مناسك الحج، وسيلة النجاة.