الموضوع ارسل عبر البريد الالكتروني من الاخ المشرف صبيح النعيمي
موقف الفكر الشيعي
من الحركات الباطنية
السيد كامل الهاشمي (1)
الباطنية تسمية أطلقت لتوحي باتجاه يتجاوز الوقوف عند ظواهر الأشياء والكلمات، وشاع إطلاقها في تاريخ الإسلام على عدة فرق دينية تتسم بالسرية وغموض معتقداتها الدينية، مع اختلاف في مستويات السرية والغموض، وأهم تلك الفرق: الإسماعيلية والنصيرية والعلوية والقرامطة".
ومما لا ينبغي إغفاله: أن مصطلح "الباطنية" أضحى مع مرور الزمن ذامدلول سياسي واجتماعي تستخدمه بعض الأطراف؛ لتشويه سمعة أطراف أخرى تختلف معها في اتجاهاتها الدينية والعقيدية.
والشهرستاني في "الملل والنحل" يقول في تعريفه للباطنية: (وإنّما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم وقوم، ففي العراق ـ مثلاً ـ يسمون بـ: الباطنية والقرامطة والمزدكية، وفي خراسان بـ: التعليمية والملحدة، وهم يقولون، وهم يقولون: (نحن إسماعيلية؛ لأنا تميزنا عن فرق
الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص) (2).
وفي دائرة المعارف الإسلاميّة يذكر عن "الباطنية": أن (هذه الكلمة مشتقة من كلمة "باطن" كما يدل على ذلك اسمها. والباطنية هم أولئك الّذين يأخذون بالمعنى الباطن للكتاب، ويجعلون لكل تنزيل تأويلاً.
وقد أطلق مؤلفوا العرب اسم الباطنية على فرق عدة متباينة كان لها شأن سياسي هام، وأهمها: الخرمية والقرامطة والإسماعيلية. وهذه التسمية أطلقت أيضاً على فرق ليست من فرق المسلمين، إذ يعد منهم المزدكية وهي: فرقة مانوية أسسها مزدك، وظهرت في عهد الملك الساساني قباذ بن فيروز) (3).
والكلمة الجامعة في "الباطنية" أنها (لقب عام مشترك تندرج تحته مذاهب وطوائف عديدة، الصفة المشتركة بينها هي تأويل النص الظاهر بالمعنى الباطن، تأويلاً يذهب مذاهب شتى، وقد يصل التباين بينها حد التناقض الخالص، فهو يعني: أن النصوص الدينية المقدسة رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار مكتوبة، وأن الشعائر بل الأحكام العملية هي الأخرى رموز وأسرار، وأن عامة الناس هم الّذين يقنعون بالظواهر والقشور، ولا ينفذون إلى المعاني الخفية التي هي من شأن أهل العلم الحق، علم الباطن) (4).
إنّ فرقة الإسماعيلية من الفرق التي تميزت عن غيرها ـ إلى يومنا هذا ـ بولعها في التفسير الباطني لحقائق الشريعة، وتتخذ موقفاً من الشريعة يقوم على: أنّه يجب على من يريد الاندماج في سلك الإسماعيلية أن يزيح عن بصره الحجب المادية التي تغشى الشريعة؛ وذلك بأن يرتقي إلى معرفة تتناهى في السمو والدقة، وأن يسمو إلى عالم الروحانية المحضة؛ لأن الشريعة عندهم ما هي إلاّ واسطة تهذيبية ووسيلة تربوية، ذات قيمة نسبية وأهمية عرضية وقتية، وهي تصلح لقوم لم يكتمل نضجهم بعد، ورمز يتحتم
البحث عن كنهه الحقيقي في الخير الروحي الذي تدأب الشريعة له وتسعى إليه.
ورغم أن كلّ أو أغلب الفرق الباطنية ـ وبالأخص الإسماعيلية ـ أتهمت بالتجاوز على الشريعة وإباحة المحرمات وتفسير ظواهر الشريعة بتفسيرات باطنية لا شاهد عليها من العقل أو الشرع، إلاّ أننا نجد أن هناك من يعزي هذه الاتهامات إلى دوافع سياسية، محاولاً براءة بعض هذه الفرق من تلك الاتهامات.
فها هو "مصطفى غالب" الكاتب الإسماعيلي المعاصر يبرر التشويهات التي ألصقت بالإسماعيلية بأنها من فعل الخلافة العباسية التي واجهتها الإسماعيلية بالعداء ومحاولات الخروج عليها، فيقول:
(لما شعرت الخلافة العباسية التي كانت تجتاز مرحلة اضطراب وضعف، ويتعاقب في خلافتها عدة من الخلفاء الضعاف بخطر، الحركة الإسماعيلية الداهم، فوكلت وعاظهم وأصحاب المقالات الدينية بالطعن بمبادئ هذه الحركة والإفتراء عليها بالأكاذيب؛ لينعتوا مذهبها ونظامها بالإباحية والزندقة والإلحاد، والخروج عن الدين الإسلامي الحنيف، ويطعنوا أيضاً بنسب أئمة هذه الحركة، ويحرضوا عليهم أصحاب الجهل وأهل التعصب) (5).
ومن كلمات الكاتب المذكور في بيان أصول عقيدته الإسماعيلية التي تخالف ما اشتهر عنها بين مؤرخي الفرق قوله: (فالعقيدة الأساسية الجامعة للإسماعيلية تترسخ في حقائق ثابتة هي:
1 ـ العبادة العملية، أي: علم الظاهر: وهو ما يتصل بفرائض الدين وأركانه.
2 ـ العبادة العلمية، أي: علم الباطن: من تأويل ومثل عليا للتنظيمات الاجتماعية والإدارة السياسية. وكل هذه النقاط تعد من صميم العقائد، تتداخل مع بعضها تداخلاً كلياً، وتعتمد كلّ واحدة على الأخرى، فهم يقولون بالباطن والظاهر معاً، وذهبوا إلى تكفير من اعتقد بالباطن دون الظاهر، أو بالظاهر دون الباطن) (6).
ويحاول مصطفى غالب أن يسبغ على مقولات الإسماعيلية في الإمام المعصوم طابع المعقولية، فيقول: (والإسماعيلية يعتبرون ـ من حيث الظاهر ـ أن الأئمة من البشر، وأنهم خلقوا من الطين، ويتعرضون للأمراض والآفات والموت مثل غيرهم من بني آدم، ولكن في التأويلات الباطنية، يسبغون على الإمام (وجه الله )، و(يد الله)، و(جنب الله)، وأنه هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة، وهو الصراط المستقيم، والذكر الحكيم، إلى غير ذلك من الصفات.
وفي هذه الأقوال أدلة على كلّ صفة من هذه الصفات، فمثلاً: أن الإنسان لا يعرف إلاّ بوجهه، ولما كان الإمام هو الذي يدل العالم على معرفة الله، فبه إذن يعرف الله، فهو وجه الله الذي يعرف به الله ولما كانت اليد التي يبطش بها الإنسان ويدافع بها عن نفسه، والإمام هو الذي يدافع عن دين الله، ويبطش بأعداء الله، فهو على هذه المثابة يد الله) (7).
ويؤكد مصطفى غالب استناد الإسماعيلية في قولهم بالتأويل على أدلة عقلية مستخلصة من القرآن فيقول: (ولهم أدلة عقلية على وجوب التأويل استقوها من القرآن الكريم، فذهبوا إلى: أن مآلة الدين تؤخذ من خلقة السموات والأرض، وتركيب الأفلاك، وجميع ما يتامل مما خلقه الله، فقد ركزت في المخلوقات كلّ معاني الدين الذي حمله القرآن الكريم. فآيات القرآن إذن في حاجة إلى من يستنبط كنوز هذه المعاني.
واستناداً لهذه الطريقة أوجدوا نظرية المثل والممثول. والباطن والظاهر، وجعلوا الظاهر يدل على الباطن، وسموا الباطن ممثولاً، والظاهر مثلاً) (
.
وأمام هذا الغموض الذي يكتنف النظرية الإسماعيلية، والتشويهات التي يزعم مناصروها أنها ألصقت بهم ظلماً، لم يجد المستشرق "جولد تزيهر" بدأ من التشكيك في إباحية الإسماعيلية وتحللهم، فقال: (واستخلص خصومهم من نظريتهم الدينية هذه: أنهم يتحللون من النواميس الخلقية، ويبيحون كلّ محظور ومنكر، غير أنا لا نستطيع أن نسلم أن هذا التصوير البشع تؤيده حقيقة حالهم) (9).
وعلى كلّ حال، فسواء صحت نسبة تلك التهم والتشنيعات بالنسبة إلى الإسماعيلية أم لم تصح، فإنها تدلنا على مدى الغموض والإبهام الذي يحيط محاولات التوصل إلى حقيقة إحدى أشهر الفرق الباطنية في تاريخ الإسلام. وإذا كان الأمر بالنسبة إلى الإسماعيلية هكذا، فكيف سيكون حال الباحث حيال الفرق الباطنية المغمورة، التي لا تجهر بنشر ما يمكن أن يفصح عن حقيقة معتقداتها؟
ومن هنا تبرزلنا صعوبة فهم العلاقة بين التشيع الإثني عشري والباطنية على مستوى الدلالة اللفظية لمصطلح "الباطنية"، وعلى مستوى الدلالة المعنوية لمضامين "الباطنية"؛ وذلك لأننا في مواجهة مصطلح عائم ـ في الوقت نفسه ـ لا نستطيع أن ننفيه بكل مداليله عن التشيع الاثني عشري لنقول: إنّ التشيع عقيدة ظاهرية بحتة لا تؤمن بباطن وراء الظاهر، ولا نستطيع أيضاً أن نثبته وننسبه بكل مضامينه للتشيع الإثني عشري، فنقول: إنّ التشيع عقيدة باطنية خالصة تنتصر في كلّ الأحوال للباطن على حساب الظاهر.
وأمام هذه المشكلة، لا نجد محيصاً من أجل إبراز الصورة الواقعية التي تحكم العلاقة بين المعتقد الشيعي الإمامي، والباطنية على وجه العموم، والتي تحكم العلاقة بين التشيع الروحي والباطنية على وجه الخصوص من بيان الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن التشيع كما كان له وجهة نظره في التأويل والرمز والباطن ـ وهي مقولات لا تتوافق إلاّ مع المنهج الباطني، ولا تصدر إلاّ عن رؤية باطنية في تفسير حقائق الوجود والدين معاً ـ فإن له وجهات نظر في علوم ومعارف: كالفقه، والأصول، وعلوم العربية لا يستقيم التعامل معها إلاّ على ضوء المنهج الظاهري ـ إنّ صح التعبير ـ في الفهم والتفسير.
ومن هذا يتضح لنا الخطأ المتكرر الذي ارتكبه "الدكتور محمّد عابد الجابري" في ثنايا مشروعه "نقد العقل العربي" حينما اختزل التشيع في عرفانه، ولم تتجاوز نظرته للتشيع هذه الزاوية التي لا نقول: إنها ضيقة لا يمكن أن ينظر للتشيع من خلالها، ولكن ما نقوله: إنها ليست كلّ التشيع؛ ولذا (فإن باحثنا يرتكب خطأ منهجياً في تصنيفه للتشيع، إذ هو يدرجه إلى جانب التصوف والكيمياء والتنجيم، ويجعل منه نظاماً عرفانياً ولكن ليس التشيع مجرد ميدان علمي، ولا هو مجرد فرع من فروع الثقافة الإسلاميّة، وإنّما هو مذهب، وهو مقالة ومنطوق، وهو اجتهاد وتأويل. إنه "عقل" كما قال الجابري، بل الأحرى القول: إنه وجهة نظر تجلت في مختلف فروع الثقافة الإسلامية ومجالاتها في الفقه والحديث، وفي التفسير والكلام، وفي التصوف والفلسفة، ولذا فإنه من الخطأ أن ينظر إلى التشيع أو إلى التسنن بوصفهما نظامين عرفانيين لا غير ففي التشيع ـ كما في التسنن ـ بيان وعرفان وبرهان إذا كان لنا أن نأخذ بمصطلحات الجابري. وليس العرفان حكراً على الشيعة من دون أهل السنة) (10)
الحقيقة الثانية: أن التشيع الإمامي ـ ولا سيما من خلال مروياته ونصوصه الدينية ـ لا يخفي تجاهره بالقول بالباطن والتأويل في تعامله مع الحقائق الدينية، وقد تواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في أن للقرآن ظاهراً وباطناً إلى سبع بطون أو أكثر.
فقد روى العياشي وغيره عن جابر قال: سألت
أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن شيءٍ من تفسير القرآن ؟ فأجابني، ثم سألت ثانية ؟ فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ! فقال لي: يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن. إنّ الآية لتكون أولها في شيءٍ وآخرها في شيءٍ، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه) (11).
وفي "الكافي": روي عن
رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال في القرآن "... وله ظهر وبطن،
فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق..." (12).
وروى "الصدوق" عن حمران بن أعين أنّه قال: سألت
أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن ظهر القرآن وبطنه ؟ فقال: "ظهره الّذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الّذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك"(13).
ومحاولة تأويل القرآن والبحث عن بواطنه لا تنفرد بها الشيعة وحدها، إذ أن العرفانية التي يمكن جعلها منهجاً في البحث عما وراء الظاهر نجد لها حضواً في جميع الفرق والمذاهب الإسلاميّة، وإن اختلفت نسبة هذا الحضور وأشكاله.
وقد ورد في روايات أيضاً: أن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً، إلى سبع بطون.
فمن ذلك: ما ذكره النقاش في تفسيره عن
ابن عباس أنّه قال: جل ما تعلمت من التفسير من علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ: "أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وأن
عليا عنده علم الظاهر والباطن"(14).
ومنه أيضاً: ما ذكره الغزالي في "إحياء العلوم"، والحافظ أبو نعيم في "حلية الأولياء"، عن ابن مسعود قال: "إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وأن
علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن"(15).
وبالنسبة إلى "علم الباطن" فإن المتصوفة من أهل السنة لم يكونوا أقل اهتماماً من الشيعة في إثبات مستنداته الشرعية.
فـ "الكلاباذي" في كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف" يذكر: (أنّه روى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "إنّ من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلاّ أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلاّ أهل الغرة بالله"(16).
وعن عبد الواحد بن زيد قال: سألت الحسن عن علم الباطن ؟ فقال: سألت حذيفة بن اليمان عن علم الباطن؟ فقال: سألت
رسول الله عن علم الباطن ؟ فقال: سألت
جبرائيل عن علم الباطن ؟ فقال: سألت الله عز وجل عن علم الباطن ؟ فقال: "هو سر من سري أجعله في قلب عبدي، لا يقف عليه أحد من خلقي")(17).
الحقيقة الثالثة: أن الشيعة رغم كونها ترفض تعطيل القرآن والجمود على ظواهره، إلاّ أن موقفها هذا لم يكن يعني بحال من الأحوال أن لا قيمة لظواهر القرآن بشكل خاص، ولظواهر النص الديني بشكل عام. وقد تبنى علماء الشيعة موقف الدفاع عن ظواهر القرآن وإثبات حجيتها؛ وذلك: (أن
النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته، فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره. وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك) (18).