كان مجتمع حلب أكثره على مذهب أبي حنيفة النعمان، و بعضه الآخر كان شافعي المذهب، و لكن ما يلبث الحمدانيون ان يمتلكوا حلب و كانوا شيعة، فحافظ المجتمع في أول الأمر على عقيدته السنية ثم غلب التشيع على حلب و غيرها، مع بقاء الكثير من السنيين.ولعل من الخير و المفيد هنا الإشارة إلى وضع غير المسلمين من النصارى و اليهود، فلقد عاشوا حياة آمنة مطمئنة في ظل دولة سيف الدولة، و بالرغم من الاتجاه العدواني الصليبي الذي تمثل في هجمات البيزنطيين على الإمارة العربية، و ما كان يحمل في ثناياه من روح التعصب الشديد، على كل غير مسلم فقد شملت سماحة الحمدانيين كل غير مسلم أقام بين ظهرانيهم فعاشوا في مزارعهم و منازلهم الريفية، و تمسكوا بتقاليدهم الثقافية و حافظوا على لغاتهم الأصلية و هي الآرامية و السريانية.
و لم يكن نشاط غير المسلمين محصورا في المجتمع الشعبي وحده، بل كانوا يلقون التسامح في قصر الأمير الذي لم يتردد في تقريب كثير منهم اليه، حتى ان ابن دنحا اكثر خدامه صلة به و إخلاصا إليه كان نصرانياً، و كان كبير أطبائه عيسى الرقي نصرانياً، وكان الأمير يجزل له العطاء و يعطيه أربعة أرزاق أو اربعة مرتبات، كما لمع منهم تحت رعاية سيف الدولة مهندسون و رياضيون فلكيون و أشهرهم ديونسيوس بطريرك اليعاقبة و المجتبي الأنطاكي و قيس الماروني.
.................
مزايا الحكم الحمداني
1 – التسامح المذهبي من جانب أمراء الدولة الحمدانية (الشيعية) إزاء أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى من أبناء الأمة المسلمة، فلم ترد أية أخبار عن مشاحنات أو نزاعات جرت بين السنة و الشيعة، لا سيما في إمارة حلب، كالتي جرت في البلدان الأخرى، مما يدل على ان هذا المجتمع (في ظل الحمدانيين) من الناحية العقيدية كان مجتمعاً خالياً من التعصب المذهبي، حتى أن احمد بن اسحق الملقب بـ(أبي الجود) الذي وليّ قضاء حلب بعد أبي الحصين كن حنفي المذهب. كما أن الكثير من اتباع المذهب السني تحولوا طواعية و عن قناعة تامة إلى المذهب الشيعي، و لدرجة ان الغالبية من أهل حلب و الذين كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، و كذلك مذهب الشافعي، تحولوا إلى شيعة. [center]ولم يتحدد التسامح الديني عند حدود المسلمين، بل شملت ساحته اتباع الديانات الأخرى كالمسيحية و اليهودية، إذ عاش أولئك بكل أمان و طمأنينة، و تمتعوا بكل حقوقهم و لغتهم و تقاليدهم و ثقافتهم.
2 – ساهم قيام الدولة الحمدانية في صيانة الشرق الإسلامي من مخططات ومكائد عداء الإسلام الغزاة، إذ استطاع سيف الدولة علي بن حمدان ان يرد الروم البيزنطيين على أعقابهم، و أن يصون سوريا، من غزوهم، و قد كان في صيانة سوريا صيانة بلاد الإسلام كلها، لا سيما مصر و العراق، فلو استطاع البيزنطيون احتلال سوريا، لنفذوا منها إلى أعماق مناطق الشرق الإسلامي، بل و حتى غربه.
3 – تحول بيئة حلب و الموصل إلى بيئة خصبة للآداب و الفنون و العلوم المختلفة، فقد اهتم الأمراء الحمدانيون و منهم سيف الدولة بالذات بالشعراء و الكتاب و العلماء أشد اهتمام، و كان تكريمه لهم تكريماً مميزاً، و كانت مجالس الأمراء تعج على الدوام بمجاميعهم، حيث مجالس الأدب و الحديث و مباريات الشعر و يذكر الثعالبي انه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر و نجوم الدهر، و منهم خطيبه ابن نباتة الفارقي، و معلمه ابن خالويه، و طباخه كشاجم، و خزّان كتبه الخالدي و الصنوبري، و مداحه المتنبي و السلامي والواءواء الدمشقي و الببغاء و النامي و ابن نباتة السعدي و غيرهم.
و يذكر الغزالي أن الكثير من علماء العصر قد تخرجوا من ندوة دار سيف الدولة و كذا بالنسبة للشعراء و الأدباء و تلك الندوة كانت بحق مدرسة العلم و الأدب.
4 – ترسيخ مفاهيم الصمود و المقاومة و الجهاد و التضحية في سبيل العقيدة و المبدأ، في أوساط المجتمع الإسلامي، و هذا ما تجسد عبر الدفاع المستميت الذي جسده الشيعة الحمدانيون و أمراؤهم دفاعاً عن حياض الإسلام و البلاد الإسلامية ضد أطماع قوى الكفر و العدوان، التي كانت تبغي الهيمنة و استعباد المسلمين، أمثال الغزاة البيزنطيين و سائر قوى الغزو الصليبي الأوربي.
يقول الدكتور فيصل السامر: لعل أهمية الدولة الحمدانية في (حلب)، لا تكمن في كونها مجرد دولة مستقلة من تلك الدويلات الكثيرة، التي ظهرت أبان ضعف السلطة المركزية و ضياع هيبة الخلفاء العباسيين فحسب، و لا مجرد كونها مركزاً هاماً من مراكز الإشعاع الثقافي و الجذب الفكري في تلك الحقبة الزاهرة حضارياً من تاريخ الدولة العربية الإسلامية، بل لكونها إحدى الدويلات العربية القلائل التي قامت على حساب الخلافة العباسية، و لأنها وقفت سداً منيعا في وجه الغزو البيزنطي الذي كان يستهدف بيت المقدس.
و يقول الدكتور فاروق عمر في الجزيرة الفراتية ظهر الحمدانيون و يمثل ظهورهم قوة نفوذ القبائل العربية في هذه المنطقة بحيث استطاعت ان تكون كيانات سياسية واضحة، حيث استطاعت قبيلة تغلب ان تكون الدولة الحمدانية في الموصل و حلب.
كان لناصر الدولة أكثر من ولد، اشتهروا بما اشتهر به ذووهم من جرأة و مغامرة، و كان واحد من هؤلاء و يدعى (أبا تغب) قد عرض على أبيه، ان ينتهز فرصة موت معز الدولة البويهي، فينطلق إلى بغداد للثأر من ابنه عز الدولة، الذي كثيراً ما قام أبوه بشن الحرب على ناصر الدولة، و لكن ناصر الدولة صاحب التجربة و منشئ المملكة، لا يقر إبنه على هذا الرأي، فيقبض الولد على أبيه و يودعه السجن، و يبدأ هو بنفسه مزاولة الحكم، وفي تلك الأثناء يطير الخبر إلى حمدان بن ناصر الدولة، و أخي أبي تغلب، حيث كانت ولايته في الرحبة، فيهب لإنقاذ أبيه من أخيه العاق، و تجري بين الأخوين معارك شديدة تضعف بسببها منعة الدولة الحمدانية التي دعمها الشيخ السجين.
يموت الأمير الشيخ السجين في تلك الأثناء في سنة 358 هـ، و يظل الخلاف على أشده بين الأخوين.
ثم لا يلبث أن تمتد آثاره لتشمل بقية الأخوة من أبناء (ناصر الدولة)، مما يشجع الروم البيزنطيين على الاعتداء على أعمال الموصل أكثر من مرة فينتصرون مرة و ينهزمون أخرى.
و يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى فيزحف عز الدولة بختيار إلى الموصل و معه حمدان و إبراهيم أخوا أبي تغلب إلى بغداد و يدخل كل منهما بلد الآخر تماما كما حدث بين أبويهما قبل ذلك بتسع و عشرين سنة.
و يدوم الخلاف بينهما مدة لا يلبثان بعدها أن يتصالحا لما بينهما من علاقة النسب فلقد كان أبو تغلب متزوجاً من إبنة بختيار.
و تلعب يد الأقدار دورها فيغير عضد الدولة البويهي على بغداد و يقتل بختيار ويواصل زحفه إلى الموصل، فيهرب منها أبو تغلب، و لا يزال عضد الدولة يطارده من بلد إلى بلد، و يظل شريداً يضرب في آفاق الأرض حتى يأسره بعض رجال الفاطميين في الرملة بفلسطين.
و ضربت رأسه و أرسلت إلى مصر، و بذلك انتهت دولة الحمدانيين في الموصل مبكرة على غير توقع و كان ذلك سنة 367هـ.
سيف الدولة هو علي بن حمدان المولود سنة 303هـ (915م)، و المتوفى سنة 356هـ في عاصمته حلب، و كانت مملكته تشمل جند حمص و جند قنسرين و =الثغور الشامية و الجزيرة و ديار مضر و ديار بكر، و كان ابتداء وصوله إلى حلب سنة 333هـ، و انقرضت دولة بني حمدان سنة 406هـ و أخرهم في حلب المنصور، و قد دامت دولتهم زهاء سبعين سنة