بعد خطوات ينفتح في الكتلة الدائرية دهليز آخر أضيق قليلاً ويشكل قطراً للكتلة الدائرية، وفي منتصف القطر الذي هو منتصف الكتلة الدائرية ينهمر ضوء ساطع على فراغ حيث يقوم القبر المطهر الشريف مغموراً بالضوء بشكله المربع الذي تقدر مساحته بحدود"3 × 3 " م. هنا وجدت رأسي يمتد ويتوقف محشوراً في المنتصف، يتملى القمر الهاشمي المضمخ بدماء الشهادة والثبات بلا ذراعين تحوم حوله تلك الهالة العظيمة التي صنعها شرف النسب والمواقف والموت التراجيدي للبطل. في هذه اللحظة اختلطت عليّ الوقائع والمخيلة عندها تذكرت كل ما قيل عن العباس"ع" ولم استغرب كل ما يتداوله الناس بشأن هذا الولي الصالح، فهو من المنظور الميثيولوجي طبيعي جداً على وفق معطيات"الموت التراجيدي للبطل " فكيف الامر والروايات التاريخية تشير الى انه عندما صال العباس على الظالمين الذين يحولون بين آل الرسول"ص " والماء، انشقت امامه الجيوش وانكشفت المشرعة بعد ان انشغل المارقون بالتطلع الى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب"قمر بني هاشم "، اضافة الى ضخامة جسده، حيث يقال انه"ع " اذا ركب الفرس خطت قدماه في الارض وقد استشهد وعمره"34 " سنة..
ازاء هذا الخاطر وجدت ان الاسمنت يغلف هالات من النور والتقوى وهي بعض اسرار قداسة ارضنا.. سألني حسن النواب: هل تشم هذه الرائحة الطيبة؟ لم أجبه. فأنا واقف الآن تماماً على المكان الذي جلس فيه الحسين"ع " يتفقد جراح اخيه، فقد انشغلت بتحديد الاتجاه الذي ركض به سيد الشهداء الامام الحسين"ع " بعد مصرع اخيه وحامل لوائه.. تنحيت عن مكاني ومن ثم دسست رأسي وكأني احاول تحديد المكان الذي جلس فيه الحسين "ع " ووضع رأس أخيه المفلوق في حجره .. من كان يشكو لمن ؟العباس الصريع ام ا لحسين الوحيد؟.. كأني اسمع حوارهما، غير آبهين بقعقعة السيوف وتصرفات الخبثاء.. المكان نفسه لم يتغير وهذا ما اشعل مخيلتي فجثمان العباس"ع " الوحيد من بين شهداء الطف لم ينقل من مكانه ودفن في مكان مصرعه.. الدم يتوهج وارهف السمع لحوارهما.. لكن صوت الحوراء زينب جاء مشروخا مرعوبا وهي تنادي من على التل الذي سمي فيما بعد" التل الزيبني " فجيوش ابن سعد اضرمت النيران في خيم النسوة والاطفال.. ياه.. ما اشدها من محنة من محن سيد الشهداء في تلك اللحظات وذلك اليوم.. فما بين الحوار الاخير مع حامل لوائه الذي يلفظ انفاسه الاخيرة، وما بين عويل النسوة واليتامى ومن رعب النار التي اشتعلت في اذيال ثيابهم.. وجد سيد الشهداء نفسه حائرا.. لم اسمع ولم اقرأ كلمات الوداع الاخير.. فقد نهض وحمل سيفه ليذود عن حرم رسول الله.
كان ثمة فراغ بين القبر وكتلة الدائرة التي بدا التهري على طابوقها الفرشي لقدمه.. اختلط علي الضوء والماء، ثمة رسائل واوراق تطفو ما بين الماء والضوء، التقطها وافضها برغم بللها واحاول ان اقرأها، انها رسائل شكوى واستجارة بهذا الولي الصالح من ضيم الدنيا، حاولت قراءة الاسماء والكلمات كانت رائحة الفجيعة محسوسة من الحبر المنتشر على الورق بفعل المياه، بعد لحظات اجد صورتين لفتاتين كانت المياه قد شوهت الكثير من ملامحهما، تساءلت كيف وصلت الرسائل والصور الى هنا؟.. ولماذا استجاروا بولي بلا ذراعين مكبل بالاسمنت، تذكرت ما قاله لي صابر الدوري:"بالرغم من ايماني بالعلم لكني لا استغرب ان يضع الله سبحانه وتعالى آياته في بعض اوليائه الصالحين " اذن انه الايمان المطلق بالله ومن ثم بالاولياء الصالحين.
استدرت في الدهليز، اجتزت النصف الايسر من الكتلة الدائرية وتوقفت عند الطرف الاخر من الدهليز الوسطي الذي يشكل قطر الدائرة واطل مرة اخرى على القبر.. المياه لا تغمر القبر وانما تصل الى نصف ارتفاعه وثمة فراغ بين القبر والكتلة الدائرية.. يلوح من تحت الماء فيها الكاشي الكربلائي الذي بلطت فيه الارضية المحيطة بالقبر وكأنها وضعت فاصلة بين القبر ومن يريد الاقتراب منه.
ثمة تصدعات في قشرة الاسمنت التي تغطي القبر تغريني بالتحديق وكأنها ستقودني الى رؤية ما في القبر.. ذراعان مفتولتان مبتورتان من الساعد.. قربة مزقتها السهام.. انكسار شديد يغشي العين التي نبت فيها السهم الطائشي اذ تقل الحيلة وتعز الوسيلة ونداء العطش يطبق على الافاق.. فأين كانت هذه المياه من تلك اللحظات التي اشعلها العطش؟؟
اسحب رأسي واستدير على النصف الايمن من الكتلة الدائرية اذ اجد دهليزا ثالثا يقود الى منتصف الدائرة"القبر " لكنه متعرج واضيق من ان تمد رأسك فيه فتعلق عند منتصفه بالطين، من الواضح ان يعود الى عصور تاريخية ليست قريبة.. اتركه لاجد نفسي عند نقطة الانطلاق اذ تنتهي الدائرة فاصعد الدرجات المرمرية حاملا معي اجابات عن الكثير من الاسئلة التي بدت لي غامضة قبل نزولي السرداب ولاجد السيد الغرابي بانتظاري.
__________________