المواقف..الفضحية
ولا نشك في أن طائفة الأخيار، والمتقين الأبرار من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تلتزم بأوامره (صلى الله عليه وآله) في كل ما يحكم ويقضي به.
أما من سواهم ـ وهم الأكثرية بالنسبة لأولئك ـ من أصحاب الأهواء، وطلاب اللبانات، وذوي الطموحات، ممن لم يسلموا، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فستتسلموا، وأصبح كثير منهم يتظاهر بالورع، والدين والتقوى، والطاعة والتسليم لله، ولرسوله، متخذاً ذلك ذريعة للوصول إلى مآربه، وتحقيق أهدافه.
أما هؤلاء، الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرون غير ما يعلنون، فقد كان لا بد من كشف زيفهم وإظهار خداعهم بصورة أو بأخرى.
وقد راينا: كيف أن هؤلاء الذين كانوا يتبركون بفضل وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحتى ببصاقه، ونخامته، وو ويدّعون الحرص على امتثال أوامر الله سبحانه بتوقيره، وبعدم رفع أصواتهم فوق صوته(20) وبالتأدّب معه، وبأن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله وو...
لقد رأينا أن هؤلاء بمجرد إحساسهم بأنه (صلى الله عليه وآله) يريد الحديث عن الأئمة الإثني عشر، وبيان مواصفاتهم، وتحديدهم بصورة أدق، وأوفى وأتم. الأمر الذي جعلهم يخشون معه: أن يعلن إمامة من لا يرضون إمامته، وخلافه من يرون أنه قد وترهم، وآباد خضراءهم في موافقة المشهورة دفاعاً عن الحق والدين ـ ألا وهو علي أمير المؤمنين (عليه السلام)..
نعم، إنهم بمجرد إحساسهم بذلك علا ضجيجهم، وزاد صخبهم، وعلى حد تعبير الروايات:
(ثم لغط القوم وتكلموا)
أو: (وضج الناس).
أو: (فقال كلمة أصمينها الناس).
أو: (فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال).
أو: (فكبر الناس، وضجوا).
أو: (فجعل الناس يقومون، ويقعدون).
نعم .. هذا كان موقفهم من الرسول، وهؤلاء هم الذين يدعى البعض لهم مقام العصمة عن كل ذنب، ويمنحم وسام الإجتهاد في الشريعة والدين(!!).
المصارحة المرة
وقد تقدمت كلمات أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) التي صرح فيها بأن العرب كرهت أمر محمد (صلى الله عليه وآله)، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه، حتى قدفت زوجته، ونفرت به ناقته.
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة للرياسة، وسلما إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً.
وعلى هذا، فإن من الطبيعي جداً: بعد أن جرى ما جرى منهم معه (صلى الله عليه وآله) في منى وعرفات وبعد أن تأكد لديهم إصرار النبي (صلى الله عليه وآله) معاملة غريبة، وبصورة بعيدة حتى عن روح المجاملة الظاهرية.
وقد واجههم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الحقيقة، وصارحهم بها، في تلك اللحظات بالذات.
ويتضح ذلك من النص المتقدم في الفصل السابق والذي يقول: عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بخم فتنحى الناس عنه، ونزل معه علي بن أبي طالب، فشق على النبي تأخر الناس، فأمر علياً، فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسد (يد) علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
(أيها الناس، إنه قد كرهت تخلفكم عني، حتى خيل إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني)(21).
وروى ابن حبان بسند صحيح على شرط البخاري، - كما رواه آخرون باسانيد بعضها صحيح أيضاً:
إنه حين رجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة، - حتى إذا بلغ الكديد (أو قدير) جعل ناس من أصحابه يستأذنون، فجعل (صلى الله عليه وآله) يأذن لهم.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(ما بال شق الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليكم من الشق الآخر؟
قال: فلم نر من القوم إلا باكياً، قال: يقول أبو بكر: إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه في نفسي الخ)(22).
الهوامش:
1- راجع: حديث الثقلين، للوشنوي: ص 13 وما ذكره من مصادر.
2- راجع: كفاية الأثر، للخزاز، وراجع أيضا: إحقاق الحق (الملحقات) ج 13 وغير ذلك.
3- مسند أحمد ج 5، ص 99، والغيبة - للنعماني ص 122 و 124.
4- مسند أحمد ج 5، ص 99، والغيبة ـ للطوسي ص 88 و 89، واعلام الورى: 384، والبحار ج 63، ص236، منتخب الأثر 20.
5- مسند أحمد ج 5, ص 99.
6- مسند أحمد ج 5، ص 93 وفي ص 96 في موضعين.
7- سنن أبي داود ج 4، ص 106، ومسند أبي عوانة ج 4، ص 400، وتاريخ الخلفاء: ص 10 و11، وراجع: فتح الباري ج 13، ص 181 وكرر عبارة (كلهم تجتمع عليه الأمة) في ص 182 و183, 184، وذكرها أيضاً في الصواعق المحرقة: ص 18 وفي إرشاد الساري ج 10، ص 273، وينابيع المودة ص 444 وراجع: الغيبة للطوسي ص 88، والغيبة ـ للنعماني ص 121 و 122 و 123 و 124.
8- الخصال ج 2، ص 474، والبحار 36، ص 240 عنه وعن عيون أخبار الرضا (عليه السلام).
9- ينابيع المودة ص 445 عن كتاب: مودة القربى، للسيد على الهمداني، النددة العاشرة.
10- مسند أحمد ج 5، ص90.
11- مسند أحمد ج 5، ص 93.
12- صحيح مسلم ج 6، ص 4، وإحقاق الحق (الملحقات) ج 13، ص 1 عنه مسند أحمد ج 5 ص 98 101، والبحار ج 36، ص 235 والخصال ج 2، ص 470 و 472 ، والعمدة ـ لإبن البطريع: ص 421، وراجع: النهاية في اللغة ج 3، ص 54، ولسان العرب ج 12، ص 343 ونقل عن كتاب: القرب في محبة العرب ص 129.
13- أبواب الإثني عشر، وإكمال الدين ج 1، ص 272 ـ 273، والبحار ج 36، ص 239.
14- سنن أبي داود ج 4، ص 106، وفتح الباري ج 13، ص 181، وإرشاد الساري ج 10، ص 237.
15- مسند أبي عوانة ج 4، ص 394.
16- راجع المصادر التالية: صحيح مسلم ج 6، ص 3 بعدة طرق، ومسند أحمد ج5، ص 93, 92 و 94 و 95 و96, 98 و89 و99 و100 و101و106 و107 و108، ومسند ابي عوانة ج 4، ص 394، وحلية الأولياء ج 4، ص 333، واعلام الورى: 382، والعمدة لإبن البطريق ص 416 ـ 422، وإكمال الدين ج 1 ص 272 273، والخصال ج 2، ص 469 و 475 وفتح الباري ج 13، ص 181 ـ 185 والغيبة للنعماني ص 119 ـ 125 وصحيح البخاري ج 4، ص 159 وينابيع المودة ص 444 ـ 446 وتاريخ بغداد ج 2، ص 126 وج 14، ص 353 ومستدرك الحاكم ج 3، ص 618 وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامش المستدرك) نفس الصفحة، ومنتخب الأثر ص 10 ـ 23 عن مصادر كثيرة، والجامع الصحيح ج 4، ص 501 وسنن أبي داود ج 4، ص 116 وكفاية الأثر ص 49 إلى أخر الكتاب، والبحار ج 36، ص 231 إلى أخر الفصل، وإحقاق الحق (الملحقات) ج 13، ص 1 ـ 50 عن مصادر كثيرة.
17- راجع بالنسبة لخصوص هذه الطائفة من الروايات الخصال ج 2، ص 469 و472، كفاية الأثر: ص 50، ومسند أبي عوانة ج 4، ص 398، وإكمال الدين ج 1، ص 272, وحلية الأولياء ج 4، ص 333 والبحار ج 36, ص 234، ومنتخب الأثر: ص 19.
18- ينابيع المودة: ص 445 عن مودة القربى وراجع: منتخب الأثر: ص 14 وهامش ص 15 عنه.
19- ينابيع المودة: ص 446.
20- راجع سورة الحجرات: الآية 1 و2، وقد ورد أنّ هذه الأيات نزلت حينما حصل إختلاف فيما بين أبي بكر وبين عمر حول تأمير بعض الأشخاص من قبل النبي، فأصر أحدهما على شخص وأصر الآخر على آخر، حتى ارتفعت أصواتهما.
راجع الدر المنثور ج 6، ص 83 ـ 84 عن البخاري وإبن المنذر وإبن مردويه، وأسباب النزول ص 218، وصحيح البخاري ج 3، ص 122، والجامع الصحيح ج 5، ص 387، وتفسير القرآن العظيم ج 4، ص 205-206، ولباب التأويل ج 4، ص 164، وفتح القدير ج 5، ص 61، والجامع لأحكام القرآن ج 16، ص 300-301 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج 26، ص 72.
21- راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 25 والعمدة لإبن بطريق ص 107 والفدير ج 1 ص 22 عنه وعن الثعلبي في تفسيره، كما في ضياء العالمين.
22- الإحسان في تقريب صحيح أبن حبان ج1، ص 444 ومسند أحمد ج 4، ص 16 ومسند الطيالسي ص 182 ومجمع الزوائد ج 10، ص 408 وقال: رواه الطبراني، والبزاز بأسانيد رجال بعضها عند الطبراني والبزاز رجال الصحيح، وكشف الأستار عن مسند البزار ج 4، ص 206 وقال في هامش (الإحسان): إنه في الطبراني برقم: 4556 و4559 و4557 و4558 ..
موفقين إن شاء الله .. والسلام في البدء والختام
أبو مرتضى عليّ
المصدر: