شبكة الموصل الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


اسلاميّة ثقافية عامة .
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 ذاكرة جرت ميدان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:06

كتاب جديد للشاعر فاروق مصطفى

ذاكرة جرت ميدان

فاروق مصطفى



الشاعر المبدع فاروق مصطفى




ذاكرة المكان كركوك 200




هوية الكتاب



اسم الكتاب : ذاكرة جرت ميدان

المؤلف : فاروق مصطفى

طبع وتنضيد الكتاب : مكتب المعين للحاسبات

لوحة الغلاف : حافظ الدروبي

تصميم الغلاف : صالح خليل صالح

تاريخ ومكان الطبع : كركوك 2008



إني أتكلم عن نهاية الليل

عن نهاية العتمة

وعن نهاية الليل أتكلم

* * *

إذا جئتَ إلى بيتي اجلبْ لي أيها الحنون

سراجاً ونافذة صغيرة

كيْ أنظر منها

إلى زحامِ الزقاق السعيد
فرّوغ فرخ زادة



أيها المسافر إن آثار قدميك

هي وحدها الطريق

وليس ثمة من طريق

سوى تلك التي تشقها بنفسك
أنطونيو متشادو



كرسي جدي ما زالَ يهتز على

أسوار أوروك

تحته يعبر النهر ، يتقلبُ فيهِ

الأحياء والموتى
سركون بولص





إهداء



مُجدداً إليك يا مؤيد محمد

أنتَ الذي أسمعُ هُتافَ عينيكَ

يُعاتبُ الغَسَقَ المترنحَ بين بُيوتات

" جرت ميدان "


" طريق الغسق إلى " جرت ميدان "





الظلام ينثر أغبرته على ميدان " أحمد آغا " ثمة اكتظاظ للعربات والسابلة ، ساعة عامة تتوسط الميدان واعلانات مضاءة متحركة قلب المدينة ينبض بالحركة ولكل شارع أيقاعُه الذي يناسبه وطقوسه التي تتموسق معه ، أدلف إلى سوق " القورية " الفواكه تزين حوانيت الفاكهانية وتنعكس ألوانها في المرايا المثبتة في الحيطان هذا المسار يقودني إلى " جرت ميدان" / ميدان الفروسية ، حيث تقبع دارنا المتواضعة وتشمخ أمامها شجرة توت وهي تشهد على حب والدنا للخضرة والأشجار – كان غرس العديد منها ولكن اليباسَ دّبّ فيها – وكان يشيخ وتشيخ معه أشجاره ولم تسلم من سطوة الجفاف إلا هذه الشجرة فهي ما زالت واقفة تتنفس محملة بحكايات الذين أستظلوا أفياءّها في أحد الأيام. تصل الى " جرت ميدان " رحبة صغيرة يطل عليها مقهيان ومقهى صغير آخر يواجههما مع بعض النباتات المتسلقة وأزاهير الساعة وشجيرات القصب الضامرة، والمقاهي تسهر إلى ما بعد منتصف الليل وروادها يتربعون على القنفات والسابلة لاينقطعون من التجوال صعوداً إلى ساحة " أحمد آغا " أو هبوطاً إلى " ساحة الطيران " أدق على زجاج الذاكرة فتعدو الخيول على تضاريسها نحو " الساحة " ميدان مستطيل مستوٍ أشبه ما يكون بساحة كرة القدم وكأنه هُندِسَ لذلك – هذه الساحة تحاذي الشارع الهابط نحو ساحة الطيران تشرف عليها البيوت من جهتين ومنها تطل على مقبرة " سيد علاوي " المماشية لبساتين " كاوور باغي " لقد تركت هذه المقبرة وذاك البستان وحمام شعبي يتوسطهما الوفير من الزاد لذاكرتي الطفولية والتي ستبقى سنوات وسنوات تقتات منه دون أنْ تدِبّ إليه أصابع الفناء إن اجتماع هذه النقائض : المقبرة إزاء البستان الموت إزاء الحياة – الطفولة إزاء الشيخوخة ، الممكن إزاء اللاممكن دَحْرجَ السؤال الميتافزيقي الخالد على تضاريس حنجرتي ، لماذا يهرم الأنسان ؟ أيشيخ وهو يتسكع أمام بوابات الشتاء أم لأنه يريد أن يقطف زهرة الكيمياء الغربية القادمة من جزر الكلمات البعيدة وحتى أكسر قفص الأسئلة وجدت نفسي أنطلق إلى اللعب في " الساحة " هذا المكان المستطيل المحاط بالبيوت وهو أشبه ما يكون بملعب كرة القدم . المكان الذي يشهد كرنفالات الحي أفراحه وأتراحه مباريات كرة القدم ، أستعرضات حمل الأثقال ، ممارسات لمختلف الألعاب التي تتماشى مع مقدم الفصول ، ومع الخيوط الأولى لأظلام الليل– الرجال يرشون الأرض بالماء ثم يكنسون ما يستوجب كنسُه وتمدُ البسط وتوقد النار وتوضع عليها أباريق القهوة وقواري الشاي وتتصاعد تلك الرائحة اللذيذة التي تفعم الأنوف بنكهة جنونية عذبة تقتحم الحواس إلى قرارها المكين– وبعد العشاء النساء يفترشنَ أبواب الدور مجتمعات يتناولن حكايات الحي – حكايات سَمرَ حقيقية وبعضهن حكاءات من طراز فريد يُجِدْنَ حَكيَ الأحاديث بطرافة واستملاح.

ذلك هو الكرنفال الليلي الذي يليق بـ " جرت ميدان " ترى هل تذكر " الساحة " تلك الوجوه التي عشقتها، أولئك الصبية الذين كانوا ينتظرون أيام الجُمعَ فينطلقون مع الضياء المبكر للصباح حتى يمارسوا مختلف الألعاب التي أحبوها ووجدوا فيها خلاصهم الطفولي والآن هم ينزلقون إلى مهاوي الكهولة كيف السبيل لايقاف جريان السنين ونحن نذبل فوق مماشي الفصول ؟ وكيف السبيل إلى زلق ساعات الزمان الزئبقية خارج الأيام لتبقى الروح ويبقى الجسد في هذا الهناء البليل من الذكريات التي تطلق القلب خارج أعقله الخيال ، أما نحن الصبية فكنا نلعب " القرغات " وننقسم إلى فريقين فريق يختفي وفريق يبحث عن المختفين والمقاهي المستلقية على الطريق تذيع أغاني الحب والهجر وهي تتكسر على الجدران وتتمسح بأعمدة الكهرباء ثم تضيع في الفضاء الواسع الكبير .


أناس من جرت ميدان





جرت ميدان دورها المتواضعة تشغف بحب ساكنيها ومقاهيها الناعسة تمدّ أياديها لتدغدغ هوى روادها . الأغاني الجميلة تصعد من رحبتها لتعانق فضاءات المدينة عبر مقبرة " سيد علاوي " ثم تتمسح بأشجار الزيتون الواقفة في بساتين " كاوور باغي " ( جرت ميدان ) دورها تتناجى فيما بينها ، ومغنيها يتناشدونَ أغنياتهم التي تدور حول الهجر وغدر المحبوب والإنسان الذي يخسر وحده في آخر المطاف ، المنطقة تضاريس من المقاهي المتموجة وحدائقها الأمامية التي تفترش واجهاتها تزينها نباتات القصب وأشجار التوت وأزهار " الساعة " مع ساعات العصارى تُرش الأرصفة وتمد التخوت وتشد الشراشف النظيفة عليها الكهول يقدمون ويتربعون فوقها ويطلقون موسيقى حكاياتهم التي لا تنتهي ، ومع تقدم الساعات يزحف الغسق الناشط ليغسل الجدران والأبواب بتلك الظلمة الشفيفة الملساء ويزدحم الشارع وتغص المقاهي إنه غوايات الكرنفال المسائي في جرت ميدان ، ناسها الطيبون يخبزون رغفان مودتهم ، فقلوبهم مفتوحة وبيوتهم مشرعة النوافذ والأبواب فلا عجبَ أن يطلق عليهم أمراء النبل وأصدقاء الوفاء ،أعصر ذاكرتي الممسوحة بزيت أشجان اشخاصها الذين ما زالوا يطرقون بوابة قلبي ولكنهم مضوا مع المقاهي التي أطفئت أنوارها وأشجار الزيتون التي قطعت بصفوفها السبعة في بساتين " كاوور باغي " المتيمة بعشق مغامريها وتشيطنِ عصافيرها .

ناسها البسطاء نُظراء دورها المتواضعة ولكنهم أغنياء في نفوسهم كبراء في ضمائرهم يمدون مآدبهم ويفرشون فوقها أطباق مودتهم وأقداحهم الملأى بشايهم الضّواعِ بعطر أنسهم ، إنهم يخطون على أرصفة قلبي وأسمع خطواتهم على أسفلت الشارع وأبصر ضجيجهم المغسول بصخبِ المقاهي ، خطواتهم تنزرع في حَبقِ الصباح وأصواتهم تحملها ريح الغسق ، هذا هو الخال " باقر " الذي يغتبط دائماً وينتخي عندما يدعو أصحابه إلى صالات السينما وهو الذي يدفع دائما وهو لا يتركهم ماشين على أقدامهم بل هو مستعد أن يستأجر لهم من تلك العربات التي تجرها الخيول والتي كانت منتشرة في المدينة إلى أواخر العقد الخمسيني إلى أن أنتشرت سيارات الأجرة فأزاحتها عن الطرقات وأحالتها على المعاش .

وهذا هو " عزت اوجي " عزت الصياد ، وكان سكنه يبعد عن سكننا مسافة أمتار قليلة ويعيش مع والدتهِ وأخته ، وتقول حكايات المحلة إن هذا اللقب ألتصق بـ " عزت : بسبب صيدهِ طائراً نادراً في بساتين كاوور باغي " هذا الطائر الذي كان عَصياً صيده حتى على أمهر الصيادين ولكن " عزت " بذكائه وشجاعتهِ صادَ ذلك الطائر الغريب وحمله إلى المحلة وظل الناس يتفرجونَ عليه ، وعندما كنا نزوره في البيت برفقةِ أشقائي الكبار كانت عيناي تتعلقان بصندوق مربع له يتربع في احدى زوايا الغرفة ، صندوق خشبي قديم إلا أنه عُدّ عندي احدى عجائب الدنيا السبع ، والصندوق مليء بالمجلات الأنكليزية التي تتزنبق بصورها الملونة كنت أنتظر أن يفتح الصندوق ويسمح لي بتصفح تلك المجلات التي أحتوت بين صفحاتها العوالم والقارات ، أحس نفسي وأنا على ظهر جواد أعدو في البراري الفساح في كلّ أصقاع العالم والرجل كان يهدينا بعضاً منها وأنا أتعجب كيف يتنازل عن كلّ هذه اللُقط واللُقى . عاش " عزت " أعزب وعندما توفي شيعته المحلة تشييعاً يليق بأجوادِ الخَلْقِ ، وأعتقد لم يبق أحد إلا وقد سارَ خلف نعشه لأنه كان في قلوب الجميع ومحط احترامهم ومودتهم.

" العمة جميلة " هي الأخرى كانت من وجيهات المنطقة وهي قريبتنا من طرف الوالدة حكاءة من طراز نادر ، الوالدة دائماً ترسل من يناديها إلى دارنا لتروي لنا مروياتها التي تستمر وتستمر ، حكيها الغرائبي وقصها الساحر ينقلنا إلى أجواء وعوالم لا نريد العودة منها ، كنا نحس بحكاياتها تدب وتتنفس في أركان الدار وهي سخية بحكيها لا تمل من عزف موسيقاه وبفقداننا للعمة " جميلة " أنطفأت كوى وأظلمت نوافذ كنا نطل عبرها على سهوبٍ من الخيال ذي الفضاءات الشاسعة التي لا تُعد .

" العم نادر " حارس مقبرة سيد علاوي بوقاره وكهولته ولحيته البيضاء ما زال يتربع على ذاكرتي الطفولية كانت لديه دارة في الواجهة الأمامية للمقبرة يعيش فيها وحده نبصره واقفاً هناك أو جالساً على دكة حجرية ونحن في غَدْونا إلى المدرسة أو رجوعنا منها – كنا نتوسل في قرارة أنفسنا أن نجد باب المقبرة مشرعاً حتى نشق من وسطها طريقنا إلى مدرسة " المنصور " المستلقية في أحضان الحقول ، نلمحه في هذا الوسط الهادئ حيث يضفي عليه هَدْأةً أخرى بوقاره بين سكينة القبور وجلال الموت ، وربيع كركوك يأبى إلا أن يغزو الفسحات الموجودة بين القبور بمئات من الأزاهير البرية والأعشاب الخضراء . في أواسط العقد الخمسيني شُق طريق من منتصف المقبرة رابطاً ساحة العمال بساحة الطيران وتهدمت دارة " العم نادر " ولا أدري ما الذي وقع له إلا أنه كعشرات الأشخاص الذين كنا نقدرهم ونحترمهم ضاعوا وأختفوا في تقادمات السنين .

دارة في شرق " جرت ميدان "




الشارع المتدحرج من " جرت ميدان " نحو ساحة الطيران ، طريق سالك ينزلق منه صوب محلة " أمام عباس " الطريق مُعبد نظيف يغتسل بصياح الأطفال والأولاد وهم يلعبون ويتصايحون ، الدور متلاصقة ببعضها البعض وكأنها تخشى الفراق أو رحيلاً مُفاجئاً ، وتجد النسوة يقعدْنَ أمام أبوابهنّ بحثاً عن تسلية الوقت أو يصطدْنَ الأخبار الطائرة تستلقي الدارة في الجانب الشرقي – تدخل من بابها الرئيس وإذا بفناء واسع يواجهك ، تتوزع في جوانبهِ المختلفة غرف عدة ، وكل أسرة تحتل احداها ، عوائل متباينة يجمع بينها الكدح والعمل من أجل البقاء وديمومة العيش، في هذه المملكة الجرت ميدانية تجد الحاجة " بهية " تعيش مع أبنها الوحيد ، سيدة كادحة تشقى كثيراً حتى تسير أمور عائلتها ، كنت أسمع نتفاً من أخبارها عن طريق والدتي التي كانت تزور صديقاتها الجارات في هذه الدارة الحاجة " بهية " تعشق الشاي وعدُده ، وفي أزمة من أزماتها المادية الحادة شارفت فيها على الأفلاس ، أفتقرت إلى مادة الشاي فضحت بأعز ما تملك من أغراض في غرفتها وأخذتها إلى سوق " الصوب الكبير " فباعتها ثم بثمنها أبتاعت الشاي والسكر وأعادت الحياة إلى " سماورها " فأخذ الماء يُبقبق ويزغرد فيه وتصاعدت رائحة الشاي المعطر في كل ارجاء الفناء وظلت هذه الحكاية ، حكاية عشق الشاي تنتقل من لسانٍ إلى آخر . وفي الدارة ساكنة ثانية تعمد إلى نَصْب أرجوحتها في مناسبات الأعياد ونساء الطرف يسرعْن إلى فناء الدار للركوب فيها والتأرجح في الهواء إنه طقس كركوكي خاص بنسوةِ المدينة تتواعد الصديقات والجارات وهن يتهندمْنَ بملابس العيد الجديدة المزركشة – يتألقن أنوثةً ويتبَخْتَرْنَ أبهة مع مسرات الأعياد ومباهجهِ فهذه الطقوس الأرجوحية تنقلب إلى كرنفالات ممراعة، ومع أزيز الأرجوحة وهي تهتز صاعدة هابطة تحت أقدام المتأرجحات ، تعلو الأغبرة ويرتفع الصياح وتعشب الأفراح البريئة – وتغتسل غرف الدارة وأرجاؤها بالمرح النسوي الغامر.

ثمة ساكن آخر كان يحتل احدى الغرف يكتب الأدعية والتمائم التي تعلق في أعناق الأطفال لدفع العين – ويكتبها لجمع الشمل بين القلوب المتواددة كنت أمرّ من أمام غرفتهِ وأنظر داخلها وهي تمتد إلى العمق تسودها العتمة أحس وكأنني أغتسل بالهمسات المبحوحة الخارجة منها – لم أجرأ في أحد الأيام الدخول فيها ، غرفة لها أسوارها العالية وكأنها عصية الأنكشاف على العالم الخارجي ثم أشيعت في المحلة بأن أيدياً غير مرئية مَست صاحبنا فكفّ عن كتابة التمائم ويبدو أنّ الرجل خفّ في عقلهِ فكان دائماً يشاهدُ وهو يخطو المسافات الطويلة في الطرقات المؤدية إلى بساتين " كاوور باغي " وأظن أنّ الرجل بقيَ أشهراً طويلة على حاله هذه إلى أن طرق الشفاء أبوابه .

ساكنو غرف الدارة يتبدلون فالناس دائماً وراء أرزاقهم وأينما هي تلك الأرزاق فهم يسعون إليها ، وكأن الدارة تتجدد بتجدد قاطنيها ، ومع حلول ساعات ما بعد العصر تكنس الأرضية وترش بالماء لجلب الرطوبة والبرودة والعوائل تفترش أمام حجراتها تنصب عدد الشاي وتتهيأ لوجبة العشاء ، القلل توضع في أماكن عالية بعض الشيء من أجل أن تبرد ، وتشطر أثمار الرقي والبطيخ في سبيل أن تكتسب المزيد من البرودة ، الغسق يتقدم والأظلام ينشر رذاذه الناعم على المفترشين ثم سرعان ما يزدحم الطريق أمام الدارة بالصبيان المستعدين للعب وجبةٍ جديدة من مباريات " القرغات " وأجهزة التسجيل في مقاهي " جرن ميدان " شرعت بضخ أغانيها وهي تتمسح بأعمدة الكهرباء والسطوح وأشجار الكالبتوس / وننقسم إلى فريقين : فريق يختفي ، وفريق يبحث عن المختفين في الأزقة والمحلات المجاورة ، قرغات واحد ، قرغات أثنان ، قرغات ثلاثة – ويهرول الفريق الثاني للبحث عن الفريق الأول الذي اختفى في الدرابين المظلمة – وأنا ضمن الفريق الثاني أبحث عن المختبئين بعد أن رفعت طرف دشداشتي وكأنني ذاهب إلى مصير حاسم ، أبحث في محلة " امام قاسم " ومنطقة " بكلر " ويسرع نبضي ويعلو لهاثي وأحس أنني أترنح من كثرة التعب ولا أجد أحداً من كلا الفريقين أين أختفى صحبي ؟ إلا أنني لا أكف عن البحث ولكني أحس بأني أكتهلتُ وأنا ألعقُ الظلام في تلك الأزقة المؤدية إلى الدارة المستلقية في قفائر الليل .


احمد نجم مصطفى في سفرة مدرسية






وأنا أشم تناجيات المقهى الناعس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:08

وأنا أشم تناجيات المقهى الناعس
أعوامي الخمسون تتدحرج أمامي بتدحرج الجسد الواهن أهبط ويهبط الغسق الواله في مساء كركوكي حزين يغلف الجدران العتيقة وبوابات الدكاكين الصدئة ومع أغتسال " سوق القورية "بالأكتظاظ المسائي أغتسل بأصوات الباعة وصرير العربات وأبواق السيارات وروائح الشتاء المميزة في هذه الأمسية المعلمة بالكهولة وتسكعات التذكر المبللة بالحنين إلى كل الأشياء التي تهرب وتسيل من بين أصابع المرء . وهل في مكنتي الآن وأنا أنضج كهولتي المبكرة أن ألملم تلك التناجيات والنتؤات والدهاليز والنداءات والصرخات من حقائب العمر ، لا يصدق القلب أنه أحرق خلفه كل هذه الأعوام بأحلامها ومناحاتها وكوابيسها ولا يصدق بعد هذا العدو الطويل وراء الجمرة التي لا تلمس يقبض على أشياء ممسوحة بالهواء ، وعندما يصحو يجد الشمس التي تغزل بها طويلاً قد توارت والبرد يخترق العظام والظلام يغسق ويحضن دور " جرت ميدان " الوادعات والتي تلمس أطرافها جدران مقبرة " سيد علاوي " وأسوار بساتين " كاوور باغي " الحي في الخمسينات يشتعل بمقاهيه وتشتعل معها لذاذات الأماسي ومنادمات الصحب ومعاشق الفتيات وحكايات المغامرين وحكم الشيوخ ، سألني أحد الأصحاب مرة في أية جامعة تخرجت ؟ أخبرته بأني خريج أكاديمية " جرت ميدان " التي تعلمت فيها حب البساطة وعشق الفقراء وألفة الجيرة وأسرار الحكايات المطلسمة .

من " جرت ميدان " إلى ساحة " الطيران " كان العديد من المقاهي يفترش جانبي الشارع ولكل مقهى دائرته المخضرة وأشجارها الفارهة وعرائشها المتسلقة ، ومع ساعات العصارى تمتلئ بروادها الذين يملؤون أركانها ببركات أنوار وجوههم ومنادماتهم التي تتبلل بمودة الأنسان للأنسان وأستطيع أن أعد لك هذه المقاهي مقهى وراء مقهى وكل واحد منها يشتهر بأسم صاحبه والآن كل هؤلاء الألاف ودعوا عالمنا وتركوا لنا في الذاكرة الفقيرة هذه الخيوط الرقيقة من الأستذكارات المجتزأة أقف تحت أنقاض بعض هذه المقاهي أربط الخيوط لتشتعل المخيلة وتنبجس الأضواء حتى أن والدي كان يملك واحداً من هذه المقاهي وإلى اليوم ما زالت شجرة توت معمرة شاخصة أمام المقهى الذي شيده عام 1937 وهو جزء أُستل من دارنا بواجهتين وغرس أمامهما العديد من الأشجار كان يحبها ويتعامل معها ككائنات حية ولكن الأيام اسقمتها وأذبلتها ودب الجفاف في عروقها هذه التوتة الباسلة عندما أمر قربها أسمع كأن والدي يناديني بالدخول إلى الدار لقد أنقضى النهار وأنتهت ألعابكم أيها الأولاد وحان وقت الدراسة والعشاء .

يحتل المقهى ركناً دافئاً في الذاكرة حيث كان يغلق ساعات النهار ايام شهر رمضان كنت أتسلل إلى داخله من باب خلفي مستمرئا رطوبة المكان وبرودته والموسم قائظ والساعات طويلة والماء ينقط من الحب والظلال تنعكس من بين ثقوب بواباته راسمة ألواناً ,اطيافاً شتى ، ولنا في المقهى غرامفون " حاكي " يشحن باليد وعشرات من اسطوانات " الجقمقجي " وغيرها . في يومي الخميس والجمعة يكون لدينا رواد من شرائح الجنود لقرب المقهى من المعسكر ، كانوا في غالبيتهم من مدن الجنوب فيلحون في طلب الأستماع إلى " خضيري أبي عزيز " ومؤدين آخرين برعوا في آراء الأغاني الجنوبية ولا أنسى أغنية " عمي يا بياع الورد " " وللناصرية " هذه الأغاني الشجية التي كانت تخترق أعماقهم وهم يحنون إلى مدنهم ويشتاقون إلى ذويهم في بعض الظهائر القائظة يتركهم الوالد يقيلون ساعات القيلولة يحلمون ويتمتعون بأطياف أحبائهم لم يكن التلفزيون قد حَلّ في المعشوقة " كركوك " ولكننا نملك جهاز مذياع كبير وكان هو الآخر معشوقاً بأغانيه ومرغوباً لنشرات أخباره ، وفي ساعات الصباح والمساء للأستماع إلى تراتيل مؤثرة من أي الذكر الحكيم .

في الشتاء تزغرد داخل المقهى مدفأة نفطية تتوسطه تضفى على فضائه طقساً عابقاً من الدفء الشجي أما الصيف فيحلو الجلوس أمام المقهى تحت الأشجار بعد أن ترش الأرضية بالماء فيتقاطر أهل الطرف إليه يحتسون الشاي ويعلون قناني " العصير" " والسيفون " وربما مر بعض الغرباء يستريحون ويتناولون شرائح من الرقي والبطيخ على صوان معدة لهذا الغرض وفي نفس الوقت تأخذ الحياة أيقاعها الساحر في المقاهي الأخرى التي تمتد أقدامها من " جرت ميدان " إلى ساحة " الطيران " وثمة ساحة تواجه مقهانا وهي رحبة خالية مهندسة مستطيلة الشكل ، بعض الجيران يعمد إلى فرش مساحة منها بالبسط وأشعال النار وتسخين القهوة والسهر هناك مع قمر الصائفة الذي كان يهبط إلى ساحتنا بحثاً عن الأطفال الذين يلعبون ويغنون ويشاركهم أحزانهم لأن يوماً آخر سينقضي ولابد من الأيواء إلى المنزل في أنتظار نهار جديد آخر تطل عليهم شمسه الماتعة ملّ الوالد العمل في المقهى فأراد أن يتعاطى حرفة أخرى فباع كل الأغراض المتعلقة بعمله وحول المحل إلى فرن للصمون الحجري وظل يجرب عمله الجديد إلا أنه وجد الرزق لا ينبسط له كما كانت الحال في عمله السابق فأجر المحل وتقاعد عن الشغل نهائياً ، ثم عاد المكان إلى زيه القديم ولبس لبوس مقهى جديد ، وتحول والدي إلى جليس في مقهاه كان يجالس أصحابه ويسرد عليهم حكايات مغامراته عندما سيق إلى " سفر برلك " أبان الحرب العالمية الأولى ، وهكذا هي حال الدنيا فالأنسان يصعد مسرح الحياة ولا يعرف ما الأدوار التي تنتظره؟ ولا الممثلين الذين سيشاركونه في تمثيل تلك المسرحية الكومي التراجيدية التي نطلق عليها الحياة .

أوقفني رجل في ميدان " أحمد أغا " قال لي ، أني أعرفك وعرفت والدك ومقهاه ولكن لماذا تغيرت كثيراً ؟ وكيف تريدني ألا أتغير أذا كنت رأيتني أبان الخمسينات وها هي عقود خمسة تكتمل وتريدني أن أتقولب في ملامحي ويتجمد من حولي الزمان، فأسمح لي أن أعود إلى توتتي الباسلة لأقف إزاءها وأنادي رفقتي الذين كنت ألعبهم أيام صباي فلن أقع ألا على مكتهلين قد سارت عليهم عربات الأيام ، أتمسح بالشجرة علي أسمع تناجيات المقهى الناعس فهو الأخر تحول إلى محل لتوزيع الطحين على المواطنين يتجمهرون للحصول على حصصهم وأنا أتدحرج في تناجياتي ويصافحني الشتاء وأتجمهر في أحلامي التي تتسكع على حافات الذاكرة المضنكة .


فاروق مصطفى مع صديقه اللبناني احمد خليل

البحث عن " رأس الساقية "

أتدحرج إلى " جرت ميدان " وأنا أنوء تحت ثقل اكتهالات السنين العجفاء . وأنحشر في الزقاق المؤدي إلى منطقة " امام عباس " البيوت القديمة التي أحببتها ، والوجوه التي ألفتها إبان الطفولة ترى ما الذي حَلّ بها ؟ أين أصحاب تلك الأسماء التي كان يسكر القلب لوقعها ؟ أين تلك الوجوه الصبوحة الملتذة بأمواهِ نبلها وشغف وفائها ، نصف قرنٍ أحترق ومعه أحترق الجسد ، الجسد الضامر يَتسَرْسَحْ نحو تلك الساقية التي عشقتها، المياه تتدفق فيها وهي تعدو من الأطراف الشمالية للمدينة حتى المحلة – تعارفنا عليها بـ (( ارخ باشي )) رأس الساقية – أسراب البط ، وأسراب الوز تتجمع في مياهها وتسقط أشعة الشمس على ريشها فيعكس من الألوان التي هي بهجة للعين وأنشراح للذهن، ونسوة الطرف يجتمعن عند حافاتها لغسل أطباقهن وثيابهن المنزلية وبالرغم من حنفيات الأسالة قد غزت البيوتات ومع ذلك النسوة يزدحمنَ هناك ربما للتشاوف وتبادل الأحاديث وسماع أخبار العوائل وربما للقضاء على رتابة الدار والتمتع بإيقاع الحياة خارج جدرانها ، والصغار بدورهم يهبطون الماء ويملؤون دشاديشهم بهذا الكائن الحي ويجعلونها على شكل قِرب منفوخة ثم يفرغونها لاهين لاغطين وفي النقطة التي كان يجتمع الأولاد فيها ، الماء يغزر ويتدفق إنه من نعم الطبيعة أن تصغي إلى موسيقى المياه ، هل هناك أصوات أجمل وأبهى وأبذخ من الخرير الناعم والهدير الباذخ ، كنا نلعب ولا نملّ ساعاتنا تمضي ونحن في أشد الضراعة إلى الله ألا يمضي الزمن بهذه السرعة ويهبط المساء حتى نعود إلى الدور ونترك وراءنا كل هذه اللعب ومباهجها وكرنفالاتها وكل هؤلاء الأتراب وكل هذه المياه وموسيقاها وايقاعاتها .

أبحث عن الساقية ولا أجدها ، ربما غَضبتْ فَلَملمَت حقائبها واودعت بطها وأوزها في أقفاص خشبية وسافرت إلى صُقعٍ آخر ، وهكذا كل الأشياء الجميلة إلى وداع ، أختفت الكرمات الجميلة من بساتين كركوك وأندثرت أشجار الكالبتوس من شوارعها وقطعت أشجار الزيتون والتوت وغادرت النوارس البيضاء التي كانت تحلق في فضاء نهر " الخاصة " حتى الكهاريز التي كانت تمد المدينة بمياهها الرقراقة أختفت فلا أدري قطعت من ينابيعها أو تيبست من كثرة جريانها وضمرت من لوعةِ عشقها الهائم وراء المحبوب أو أغتيل بعضها لأن غناءها كانَ يشجى وخريرها يملؤ فضاءات المدينة بشجوها الدائم ، ولكني مازلت أحتفظ بتلك السواقي تحت معاطف ذاكرتي، أفهرسها بين كلماتي ، ويؤرشف القلب ذكراها فهي تلتفُ حولي وتحيطني بأبهة ايقاعاتها الساحرة .

أمشي الآن وتمشي معي الساقية والأصداء تصدي في داخلي وأمدّ يديّ تغتسلان في البرودة الرخامية للمياه الدافقة ، وأهتف: ماء إلى سُمار مقاهي " جرت ميدان " وأشرب نخب الربيع المعتدل تحت كرمات " كركوك " وإذ أجتاز صوب محلة " بكلر " أرفع بصري : شناشيلها هي الأخرى مطفأة النوافذ ، مغبرة الشرفات ، وتشتاق روحي إلى ذلك البستان النائم خلف الشناشيل الذي يتوهج في مواسمه برمانهِ الباذخ وتوتهِ المسكر، أخرج إلى الرحبة الصغيرة في " جرت ميدان " لا صوت لأنأمة ، لقد دبّ القحط إلى مفاصل مقاهيها والخراب يصدح في أركانها وجلاسها الحميمون أختفوا وسكت المغني عن غنائه الصريح ، أمد يديّ فأحس بجفاف الساقية في جيوبي فأهبط الشارع الذي يمشي إلى " ساحة الطيران " وأمر من أمام دارنا العتيقة ومقهانا الناعس الذي أطفئت أنواره وتيبست رُغفان صحبتهِ ، شجرة التوت الوحيدة التي كانت أمام المقهى وهي علامة خصوبة هاتيك الأيام ، والدي الذي غرسها وقد حرسها سنيناً وحرص عليها كأعز ما يملك وظلت أعواماً تشير إلى أيقونةِ المكان وفتنة المقهى وألفة الموقع قطعت وغادرتها العصافير وأبتعد عنها عشاقها الصغار ، أتدحرج ثانية وأدحرج معي الطريق علّي أتعثر بالساقية التي تبللت فيها قمصان طفولتي ولكني أذكر أحد الأيام وعلى حين غرة ركبت غيمة طيشها ثم جمعت أشياءها الصغيرة واستقلت قطار السنين العادية .



المرحوم محمد قادر ((بهلوان)) مع ابنه عادل المتوفى
وخلفهما طارق صاحب مقهى في جرت ميدان



المقبرة والبستان والحّمام / الحكايات المتقاطعة


قلت في أكثر من مكان إن ثلاثة معالم واضحة تركت بصماتها على تضاريس ذاكرتي وظلت تعدو فوق براريها داعية أياي إلى مآدبها الضاجة إذا أنهر النهار أو ألْيلَ الليل, مقبرة " سيد علاوي " وحارسها الأمين " العم نادر " بستان " كاوور باغي " وأشجار الزيتون الممتدة في صفوفٍ سبعةٍ وبين هذين المَعْلمين حمام شعبي ملتصق بسياج المقبرة من جانب وأسوار البستان الطينية من جانب آخر ، وهذه المعالم الثلاثة تمتد عند الأطراف الجنوبية لـ " جرت ميدان " البستان مُطلسم بحكايات العَتاقة وقصص المغامرين والأفاقين وكذلك يحتفي بسكان الطرف وهم يحتسون أقداح الشاي المُهيل في نزهات الأربعاء الملتذة تحت أشجارها الباذخة والحّمام هو ملتقى النسوة في وجبته الصباحية، وبعد الساعة الثانية ظهراً يُهيأ للرجال وكذلك يشهد طقوس تحميم العرائس وتهيئتهنّ إلى ساعات الزفاف وينتخي مع العرسان الذين يغادرونه محاطين بضوضاء صحبهم بين إيقاعات التطبيل ونغمات التزمير .

كان الجرت ميدانيون يفتحون عيونهم على هذه العوالم ويعتادون عليها وتنقلب إلى أجزاء حميمة من حياتهم وإلى كسَر مضيئة في موشور رؤاهم حتى أنهم كانوا لا يستعملون أسماءها وأنما يكتفون بذكر : الحمام ، البستان أو المقبرة فهي عندهم تدب وتنبض وتتنفسُ ، مرات ترعبهم ومرات تفرحهم وهي أيضاً المسارح التي يشهدون فوق خشباتها مسراتهم وأوجاعهم فلهذا أمتلأت حياتهم بحكاياتها ونوادرها وحتى أن بعضها تأسطرَ بفعل أضفاء خيالات فانتازية عليها وكنا نصدق تلك الأساطير المستولدة ونعايشها ونقبلها وكأنها من المسلمات الحياتية ، بل كنا نتماهى فيها فإذا سمعناها من الكبار ، نضفي عليها نحن الصغار الكثير من التوابل والأفاويه ومتطلبات التغريب وإذا هي حكايات تنمو لها أرجل وتنبت لها أجنحة تدِبُ هنا وتحلق هناك .

وبيتنا مَشْغَلُ حكائي ، يشتغل بحكاياتهِ التي لا تنتهي وشقيقي الأكبر هو الحكاء غالباً ، يسحرنا بِحكيهِ المحلق الجميل ، هو الراوي وهو البطل ويشرك معه دائماً في البطولة أصحابه المقربين والحكايات على لسانهِ تنسابُ سلِسة عذبة يموسقها وينغمها ويشوقنا مع أحداثها المنداحة ، يروي لنا : في أحد مواسم قنص الزرازير ذهب مع صديقه "مصطفى " إلى البستان ، وجدا بابه مغلقاً ولكنهما تسلقا سوره الطيني وألقيا نفسيهما داخله الوقت ليل والأظلام مطبق فلا من نأمة ولا من حركة كأن الدنيا خلت من ساكنيها ، ولديهما طريقة في الصيد أن يذهب أحدهما إلى صف آخر من الأشجار ويبقى الثاني في الصف الأول وبعد ذلك يحاول ايقاظ الزرازير النائمة التي تطير إلى الصف الأول ثم يعمد الثاني في أمساكها بواسطة أجْولة معدة لهذا الغرض ، وهما يتحاوران ويصدران أصواتاً خاصة من أجل طرد الخوف وإدخال الطمأنينة إلى نفسيهما ويقول أخي فجأة انقطع صديقي عن إصدار أية نأمة وكأن الأرض أنشقت وأبتلع في جوفها ، علمت أن شيئاً مهماً قد حدث له ، وما هي إلا لحظات وإذا بكائن غريب متدثر بجلباب فضاض طويل ويعتمر طربوشاً غير مألوف يدرج في مشيتهِ تحت الشجرة التي أنا فوقها ، وإذا صديقي " مصطفى " أبصر ما أبصرهُ الآن ويستطرد أخي بأن روحه وصلت حنجرته وأن جسمه غدا بركةً من العرق الساخن الدبق ، وقف هذا الكائن الزلنطحي تحتي مباشرةً وظن أخي أن نهايته حانت وأن الغريب مهاجم إياه لا مشاحة في ذلك، أبتعد بضع خطوات عن شجرتي ، سمعت صوت ارتطام قوي بالأرض . هل هو صديقي رمى نفسه من فوق الشجرة ؟ وأنا أيضاً بكل ما أوتيت من قوةً ألقيت نفسي وبدأت أجري نحو أسوار البستان ، وجدت نفسي خارجها وصاحبي يلهث خلفي من هذا الذي أبصرناهُ ، وعندما وصلت إلى البيت كنت أرتعش كورقة معصوفة في مهب الرياح الخريفية ورأيت وجهي في المرآة انقلب إلى خارطة مصغرة من الرعب ومذ تلك الليلة لم أعد إلى صيد الزرازير ولا إلى قنص أية أطيار أخرى .

إن حكايات البستان تخطو نحو جدران الحمام وتتقاطع هناك فالحمّام صنو أخيه البستان والجرت ميدانيون يؤنسنون الأثنين وربما ظن البعض أن البستان أخاه بالرضاعة والحمام جزء مكمل لبيته يأتيه ليحلم فيه مع رشفات " الدارسين " وحسوات الشاي احلامه البيضاء .

خرج واحد من جيراننا قاصداً الأغتسال في الحمام فطرق بابه والدنيا ما زالت غارقة في عتمتها الشديدة والعصافير ما برحت نائمة فوق أشجارها جاءه الوقاد وأخبره بأن لا أحد في الحمام ولكن مع ذلك يستطيع أن يأخذ المفتاح ويدخل وحده إن شاء ، كان الرجل واثقاً من شجاعته وجرأته وبالفعل بَسْمل وخلع ملابسه في القاعة المُهيأة لذلك ودخل صالة الأستحمام وأقتعد عند أحد الأجران إلا أنه لمحَ كائناً هلامياً لم يلتق بمثله أحد الأيام ، بدأ الكائن يصب نظرات شزراء على الرجل فرك صاحبنا عينيه ليبعد هذا الخيال البشع عنهما ولكن الكائن مازال متشبثاً بمكانهِ ، وتلا آية الكرسي عله يمحو هذه الصورة المقيتة ، ثم طفق الكائن يقترب منه ويعيد الرجل قراءة آية الكرسي ثم صرخ الكائن ما أعندك أيها الرجل ! ولم يبقَ أمام جارنا إلا أن يثب نحو الباب ويشتمل بالقليل من ثيابه ليلقي نفسه خارج الحمام ، ولكن الكائن طارده بعد أن خلع بابَ الحمام الكبير وقذفهُ بهِ وتقول الحكاية بأن ناس المحلة ظلوا عدة أيام يترددون لمشاهدة الباب المخلوع من أساساتهِ والملقى بعيداً عنها عشرات الأمتار.

المرويات المكدسة فوق أرفف الذاكرة المضنكة ما زالت تتحنى بخضاب أندائها تفترش أمداء " جرت ميدان " وتُصدي في آذان المقبرة ، وها هو السكون الخالد يرين على قبورها الوادعة وقد آوى العم نادر حارسها الأمين إلى غرفتهِ بعد ان تعب من مراقبة اسيجة المقبرة طوال نهار طويل وطارد الصبيان المتشيطنين والعابثين بوقار أشجارها .

يروي شقيقي بأنه أحد الأيام مع صديقه " مصطفى " كانا مارين من المقبرة في طريقهما إلى عملهما في شركة نفط العراق والوقت قبل السحر ، الظلام ما زال يخضب برذاذاته الأرض وكل شيء هادئ ، صَدَفَ أن عاملين آخرين من عمال الشركة كانا عابرين من وسط المقبرة وقد حملا معهما زوادتي طعامهما وهما يتحاوران :

الأول : لماذ اخترت لنا هذا الطريق ألم يكن هناك سبيل آخر نجتازه ؟

الثاني : هذا الطريق قصير وسوف يقودنا إلى مقصدنا بكل أمان.

الأول : ولكننا نعكر صَفَو الموتى وندوس على قبورهم فكيف يغفر الله لنا ؟

الثاني : الموتى الآن نائمون في قبورهم تحت أثقال أحجار اللحد وقد شبعوا نوماً وموتاً .

ويضيف أخي أردنا أن نمازحهما فكمنا لهما في قبر مندرس ، وألقينا عليهما عدة أحجار ، وإذا هما يرتعبان ويلقيان زواديتهما على الأرض ويحثان الخطى مردداً أحدهما للآخر :

ألم أقلْ لك إن الموتى يستيقظون في هذه الساعة بالذات ولكنك لم تصغِ لكلامي .

ويزيد أخي : بحثنا عنهما في عربات القطار الصاعد نحو حقول النفط وعبثا أردنا أن نفهمهما بأننا الذين ألقينا عليكما الأحجار إلا أنهما لم يصدقا وظلا متمسكين بحقيقة أن الموتى ينزعجون من الذين يعكرون صفوهم وهدوءهم في الساعات المتأخرة من الليل .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:13

ثم جاءت أيام فشقت طريق وسط المقبرة وأنتصفت إلى قسمين وكانت الطريق تمتد من أمام الحمام محاذية أشجار الزيتون صوب ساحة الطيران وبعد عام 1958 قطعت أشجار الزيتون وتجردت الحقول من ثيابها الخضراء المهومة وأقيمت مكانها دور متواضعة لعمال شركة النفط وهدم الحمام هو الآخر وهجره أصحابه ثم بيع ودخل صناديق الذكرى ، وبقيت أتساءل في داخلي كيف أحترقت كل هذه الأيام وجرفت معها كل هؤلاء المحبين والأصحاب والأعزاء ومن خلل كلماتي التي تتحبر مع أصابعي أنتظرهم عند مشارف الطرقات المؤدية إلى التخوم الواقعة خارج جغرافية النسيان .

رحلة السيدة الكركوكية إلى بغداد

استقللنا سيارة أخي الأنكليزية السوداء موديل 1948 ، وهي متوجهة بنا إلى محطة قطار كركوك ، تركنا ساحة " أحمد أغا " خلفنا ، الجزرة الوسطية تزغرد بنباتاتها وأزاهيرها ومن ساحة " العمال " شجيرات الدفلى الحمراء والوردية والبيضاء تتغنج أمام هبات النسمات الربيعية ، وكأن الطريق سجادة دفلوية ومزدانة هنا وهناك بأشجار التوت المعمرة ، وثمة العربات التي تجرها الخيول وهي تنقل المسافرين صاعدة وهابطة من المحطة إلى مركز المدينة وبالعكس ، ومن مذياع السيارة يرتفع صوت " زهور حسين " الموشى ببحاتهِ الأنيقة – الصوت الحزين الأسيان يجرفك معه إلى فضاءات المحبين الملأى بالغدر والهجر والفراق، أنصت إلى هذا الصوت ويهزني معه ويثير الأشجان الكامنة داخلي ، نحن في طريقنا إلى المحطة لنودع الوالدة التي تأخذ القطار الهابط إلى بغداد بمعية أحد أشقائي وهي ذاهبة خلف شقيق آخر تخلى عن عمله في كركوك وأحرق بقية مصالحه وقصد العاصمة وراء حب أو سراب حب وعبثاً ألتمست الوالدة منه عدم الأنجرار وراء هذا الغرام الخادع إلا أنه تشبت بموقفهِ " لقد أنتهى كل شيء بالنسبة لي " هكذا كان يقول ، وميزه أفراد عائلتي أنهم عنيدون وعندما يدقون أقدامهم على الأرض ويتخذون قراراً يبقون متشبثين بذلك القرار فلا تجدي معهم الألتماسات ولا تنفع معهم التوسلات ، كان أخي يعمل في شركة نفط العراق وهو مسؤول عن بيوت الموظفين ، عندما يفد موظف جديد ويسكن في أحد بيوتات الشركة أخي يقدم له الأثاثات اللازمة كالأسرة والشراشف والزوالي والأطباق وكلها مختومة بختم الشركة i.p.c فهو يتأنق في ثيابه ، وما زلت أتامل صوره الفوتغرافية التي يبدو فيها متأنقاً حتى العظم بستراتهِ " السموكن " وربطاتهِ المزركشة ومناديله التي تزين جيوب ستراته العليا ، أذكره في عصارى كركوك وأمسياتها ، يغادر الدار وقد تقلد كاميرته وأشذاء الكولونيا العابقة تضوع من شبابهِ الغض ، وتقول روايات هاتيك الأيام إن بعضاً من صَبايا المحلةَ يتسلقن السطوح أو من خلف الأبواب المواربة ينتظرنَ مروره – لديه أناقته ولديه غرامياته وكل الأشياء التي يحلم بها المرء طوع يديه ، فكيف تسنى له ان يضرب الأشياء كلها عرض الحائط ويجري وراء ذلك الخيال العابر ، أقول يعدو خلف ذلك السراب الذي لن يلحق به ، قصد أخي بغداد وظلت العائلة تحرر له عشرات الخطابات بأسم الوالدين وبأسم الأخت وبأسماء الأشقاء والأحباب والصحاب ، عُدْ يا أخي إلينا ، شغلك ينتظرك ، أصحابك فتحوا أحضانهم وهم بأنتظارك – ذهبت هذه الرسائل أدراج الرياح وكأنها لم تخاطب شقيقنا .

في الأيام الأولى من رحيل شقيقنا إلى المدينة الكبيرة ، كانت الوالدة تقصد تلة " تعليم تبة " أرافقها وأنا صبي في العاشرة أو دونها و " تعليم تبة " مرتفع من الأرض يواجه منطقة " عرفة " وتستقر فوقه القبور المستكينة لعذوبة اعشاب الربيع المبكر مع أزاهير الخباز التي تُشطيءُ بأعناقها من بين الفجوات الموجودة هنا وهناك ، تنتظر الوالدة صفارة الشركة المدوية وهي تدوي معلنة أنتهاء العمل في الشركة ، عند ذاك يتدفق مئات العمال من أعمالهم قاصدين بيوتهم الموزعة في نواحي المدينة المختلفة الوالدة تحلم بأن أبنها سوف ينبَجسُ من بين زحامات العمال وتلّوح له او تحييهِ من بعيد ، كانت تنتظر إلى أن تخلو الطرقات الممتدة حول التلة من الشغيلة جميعهم فلا يبقى أمامها إلا الأنصراف والهبوط من المرتفع وأنا أمسك بيدها قاصدة حَيهّا في " جرت ميدان "

تعبت الوالدة من ترددها إلى التلة عند ذاك فكرت بالذهاب إلى بغداد ومقابلة ابنها وجهاً لوجه وترجوه باسم الأمومة وتذكره بالليالي التي صرفتها من اجل السهر عليه إلى أن استقام على رجليه ، ربما يلين ويتكسر عناده وهو يشاهد والدته وقد اجتازت كل هذه المسافات إليه هذه هي رحلة الوالدة الأولى إلى المدينة الكبيرة – وبعد ساعات السفر المتعبة أخي المصاحب والوالدة وصلا بغداد ولديهما عنوان الشقيق وهو فندق في شارع الرشيد والكراكلة هاتيك الأيام ينزلون في الفنادق الموزعة على جانبي شارع الرشيد يقيمون فيها ويتناولون وجباتهم الثلاث في المطاعم المنتشرة في الشارع عينهِ ثم يمضون أوقاتهم في مقاهيه الواسعة يحتسون شايهم ويدخنون سكائرهم وهم ينتظرون رسائل عوائلهم وصحبهم عبر سواق النقليات ، قصدت الوالدة الفندق الذي هو مثبت في العنوان وإذا صاحب الفندق يخبر بأن أخانا في الليلة السابقة قصد كركوك وهنا تقع المحنة كل هذا التعب وكل هذهِ المشقة يذهبان هدراً وأخي المصاحب لا يعرف أحداً ولا يعلم عنواناً فليس أمامهما إلا الرجوع إلى محطة السكك وأنتظار موعد القطار الصاعد إلى كركوك ، في حدائق المحطة أمضت الوالدة ساعات ذلك النهار الحزين ، تنتظر كل هذه الأيام أبنها فلا يطل عليها وبمجرد ما تشد الرحال إليه هو يقصد العائلة والأغرب أن القطارين كانا يلتقيان في " جلولاء " القطار الهابط إلى بغداد والقطار الصاعد إلى كركوك ولكن في مظنة من أن الأيام تخبيء مثل هذه الصدفة الغربية ، عادت الوالدة إلى البيت وقد هَدّ تعب الليلتين الماضيتين كيانها وجرى اللقاء التاريخي بين الأبن والأم وأشتغلت المساعي الحميدة عدة أيام لعلّ الأخ الكريم يبعد عنه تلك الغواية المفترشة قلبه ولكن كما أعلنت أفراد عائلتي عنيدون ومتكبرون ، ظلّ على موقفه وصرح أنه أتخذ قراره النهائي وأنه راحل إلى المدينة الكبيرة ومستقر فيها وسوف يبحث عن عملٍ هناك ، وبالفعل جمع حقائبه ومضى حيث من اختطف قلبه ، عمل في " الدورة " إلا أنه شفي من سراب هيامه وأقتعد مصاطب الواقع الباردة والخشنة ولكنه تزوج غيرها وأنجب أولاده ، وظلت الوالدة تتردد على تلة " تعليم تبة " معزية نفسها برؤية العمال عصارى النهارات وهم يغادرون اعمالهم ، ومع قدْمات السنين تعبت الوالدة كبرت ووهنت عظامها وكلّ بصرها ، وأنا كبرت وجرفتني الأيام ودحرجتني في مساراتها المتعبة المتشعبة ، وجاء يوم انتقلت الوالدة قرب باريها لتجد الراحة من عذابات هذه الدنيا التي لا تنتهي ، وشقيقي اكتهل وجف عوده هو الآخر إلى أن عادَ محمولاً على نعشه إلى كركوك ظهيرة يوم ربيعي دافيء من عام 2005 .

يرى القاصد مقبرة " سيد علاوي " ومن قسمها القريب من جرت ميدان وبمجرد اجتيازه البوابة الرئيسة مجموعة من القبور تعود إلى أشقائي الكبار الذين انتقلوا إلى قرب باريهم وانضمت إليهم شقيقتنا الوحيدة في العام المنصرم وفي طرف أعلى من المقبرة يستلقي قبر الوالدة وكأن وجودها في هذا المكان المرتفع بعض الشيء هو للأشراف والسهر على راحة ابنائها وحتى بعد الممات ومع ساعات الليل وتحليق اجنحة الإظلام حول المقبرة وهي مستكينة لأصابع الهدوء والسكينة تسمع خطوات الوالدة وهي تهبط من مرتفعها لتسهر على راحة الأولاد وتسألهم عما تعوزهم من أشياء وإذا تغطوا بصورة جيدة وأختنا السمحة المعطاء تعينها في كل هذا وفي الصباح تشاهد أثار الأقدام التي تخضبها أنداء صباح كركوكي بليل وتنمحي تلك الآثار تدريجياً مع اتقاد أشعة الشمس وارتفاع الضجيج وبدء إيقاع الحياة في طرقات وأزقة جرت ميدان .

مارَسا من مقالب " دللي بهجت " في الذاكرة الفقيرة

لم أعرف " دللي بهجت " إبان طفولتي أو سنوات صِبايَ بالرغم من سكنهِ قرب دارنا في " جرت ميدان " ربما يعود السبب إلى كثرة تجوالاته وعدم استقراره ِ في مكانٍ واحد ولكنني عرفته عن طريق مرويات اشقائي الكبار عن مقالبهِ العجيبة وتطوافاتهِ الغريبة ، إنه كثيراً ما كان يتردد على مجالس العزاء في البيوت ويشارك النساء بكاءَهن وأنتحابهنّ ويتصنع الحزن ويتكلف الأنتحاب من أجل دفعهنّ إلى المزيد من التفجع والتوجع ، وتزيد هذه الروايات أنه كان يتقمص شخصية الطبيب يتقلد نظارة بيضاء واضعاً على أذنيه سماعة طبية ثم يأمر الأولاد بقطع التذاكر من اجل كشوفاتهم المرضية – وتضيف هذه المرويات بأنه غابَ فترة عن كركوك ثم سُمعَ صوته ينساب من دار الأذاعة العراقية وأصبح هناك بقدرة قادر مُقدم برامج يُشار إليه بالبنانِ – بل أن رواية أخرى أضافت بأن أبواب القصر الملكي ببغداد أنفتحت على مصاريعها أمامه ودخلها دخول الظافر الزهوان ورافق الملك فيصل الثاني بعد أنْ غدا مضحكاً له.

أعلم شيئاً ثابتاً عنه إبان العقد الخمسيني حيث أتصل بأحد أشقائي وكان يعمل في شركة النفط في " عين زالة " وهناك ساعدهُ الأخ على أيجاد عملٍ له إلا أنه لم يترك شخصاً في الشركة إلا ودبر له مقلباً حتى الأنكليز لم ينجوا من مقالبهِ ومساخره ، لقد أغرق الحلاق والبقال والعاملين في المطاعم بمطباته الساخرة وبعد ذلك لا أدري إذا كان فُصل من عمله أو أنه تركه طائعاً المهم أنه ملأ فضاءات " عين زالة " بغمائم هَزلهِ ورياح مساخره وزلازل مقالبه ، وإذا كنت أحرر هذه الاسطر عنه فأنه شخصية جرت ميدانية حميمة فذاكرات الناس مازالت تحفظ الكثير عن شخصيتهِ وشهرته فاضت مياهها من منطقتهِ لتغرق كل مناطق المدينة بل تدفقت منها إلى مدنٍ أخرى وفضاءات بعيدة .

أبصرت هذه الشخصية المحبوبة أول مرة وأنا في المكتبة العامة، دخلت قاعتها المخصصة للمطالعة فوجدته هناك مصحوباً بعدة مصادر ضخمة وهي باللغات الأجنبية – فهو يتقن اللغة الأنكليزية تمام الاتقان وكان بعض الجالسين يتهامسون فيما بينهم بأنه يراجع هذه المصادر باللغة الألمانية ولا أدري مصداقية هذه النظرية ولكن الشيء الأكيد بأنه كان مبحراً في اللغة الانكليزية وكثيراً ما مثل دور المفتش للغة الأنكليزية والقادم من بغداد لزيارة المدارس الثانوية وأنطلت مقالبه هذه على الكثير من إدارات المدارس وعلى العديد من مدرسيها – كان يَفدُ إلى المدارس وهو يحمل حقيبته الدبلوماسية وتقلد نظارته البيضاء ولبس سُترتهُ " السموكن " وقد ألتقيت به شخصياً في إعدادية كركوك لابساً لبوس مشرف مُخضرم وطائفاً في صفوفها وهو ينفث دخان غليونهِ الخشبي .

لقيته أخر مرة في بعض قرى " العمل الشعبي " الواقعة أطراف كركوك وعلى الطريق المؤدية إلى قضاء " دبس " وأنا عداد ضمن حملة التعداد السكاني لعام 1977 ، بعد أن قمت ولفيف من زملائي في التطواف على بيوتات القرية وتدوين المعلومات اللازمة ومع إظلام الغسق الذي كان يعسكر تدريجياً دُعينا من قبل مختار القرية إلى منزلهِ لتناول العشاء لمحته في منزل المختار وقد تصدر المكان اللائق بهِ وقدمتُ نفسي له فهو صديق أشقائي الكبار ، وبعد طقوس التقديم سألته ماذا يصنع في هذه الأنحاء – أخبرني بأن أهل القرية هم أبناء عمومته ثم فتح صنبور نكاتهِ فأنساب دَفق غمرَ الجميع بالاستملاح والأستظراف ثم خاطبني بقوله :

- ياأستاذ هل سمعت هذا الخبر عن والدتي بأنها مساءَ أمس ألقت نفسها من احدى السمتيات بوزرتها التي كانت مشتملةً بها.

وبعد مرور سويعة أو ما يقاربها غاب عن الدار أبتلعهُ الظلام ، ولم أعرف أين توجه ؟ ضاع كما ضاع الكثير من شخصيات منطقتي في زحامات الأيام وتقادمات الأعوام ، ولكن ما فتئ الوفير من المقالب البهجتية يتوهج في الذاكرة الكركوكية يأبي الأنطفاء ويتمرد على الأنمحاء لأنه يحمل نكهة البداهة وضوعَ التطبع بأجواء المنطقة التي درج فوقها . ([1]

من " جرت ميدان " إلى " تعليم تبة "

أستيقظُ عند حافات " جرت ميدان أجد مقاهيها تَتَسَلْفَن بسحائبَ بيضاء وأجد نفسي ملتقطاً نهراً خائفاً من خرائط طفولاتهِ الحصوية أتكئ على نشيجٍ يلسع ذاكرتي البلهاء – أتقدم صَوْبَ مقطنٍ يختفي تحت التوتهِ الساحرة .

شجرة لا تشيخ

وقلب يتعرى ، يتقمصها

أيها الصباحُ المدحرج في مقامص الرياح

في هذه القدْمةِ المهمشة

مَن يَحتفي بجسدِ يتشظى ؟

يتصعلك قطاف أيامه العرجاء

جرس يَحن وخريف يتمسح بخاصرة " تعليم تبة " وأرى التلّ يهبط وآراه يصعد مُفهرساً قبوره البيضاء ، في غرارة يحملها مهرولاً في البساتين المذبوحة بسكاكين النسيان .

وأعلم أنتَ تذكاري

تذوبُ النهار ، تدحرج الأيام

أعدو بغيمة داهشة

تصْهالها العارم المنداح

يتأبط بَوْحَ قلبك الدفين

أيتها المصاطب الشائخة النابحة الهزيلة الأعناق

جسد يليق بنسغ شيخوخته القانطة

وأنتِ تفتحين غسقاً يمر

إلى شتاء يمن كتاباً ذبيحاً

تقرؤون فيه مراثي تُركلُ

لأطفالِ الدفلى وغاويات الغمام


" قميص لطفولة " جرت ميدان "


أعجز أن أقول

لا تفتحوا هذا الكتاب

إن هذي الفصول

حَبّرَ الشتاء أوراقها

فعجّلَ الأفول

وصادرَ أقدام رفقتي

فبكى الضبابُ على صدرها

وأمتلأت هاتيك الجيوب

أحلاماً مجففة وأثماراً مدماة

وأشجاراً تهومُ في مرايا الحنين .


قميص ثانٍ لطفولة جرت ميدان



تفتحون طفولتي ترحل منها أعشاب الدكاكين التعبى ومنزل ينشج في المزاريب ، وأب ينادم توتتهُ الأليفة ، يملأ جيوبه بروائح الخبز والنساء الهرمات ، تخترقونَ طفولتي يصادر الشتاء منها أقدام الرفقة الهائمة في بِرك العشق والأستنماء عيونكم تصلي لشقاوة كراتٍ تطير ، تتمسح بمناديلِ هوىً يلقى يلهث خلف عربات المساء .
مع احمد نجم في بساتين تازة


كتابات عثرت عليها في صندوق قديم كان ملقى في خِربة من خرائب (جرت ميدان)
أرثور رامبو في العربية
الكتابة عن ارثور رامبو لا تنتهي . فقد أثار رامبو أهتمام الأجيال الماضية . وكما هو يثيرنا ، فسوف يثير أنتباه الأجيال القادمة . وبالرغم من الأعوام القليلة التي عاشها (1854 – 1891 ) ، فأنه ترك حياة خصبة وحياة عريضة في تنوعها وتفتحها . حياة مترعة حتى الأعماق بالأسفار البعيدة والمغامرات والتشرد في المدن والترحال إلى الأراضي البكر مع عبقرية حادة ذكية في الكتابة والغرابة في السلوك الحياتي . سعى وراء العوالم الغريبة ، وأنار أعماقه وأحرقها ثم نثر هذا الرماد فكان صوراً مختلفة من ألوان الحب والألام والجنون ، حتى يبيد كل ما يحف به من الحواجز والسدود . وبالتالي يغوص في بحيرات نقاء لقد كان يحلم بإقامة عالم جديد لا يمت بأية صلة إلى العالم الذي فتح على سهوبه عينيه . لقد أحب أن يعيد برومثيوس ثانية إلى الحياة . فرامبو يحاول مثله أن يسرق النار من الألهة ويمنحها أبناء الفقراء .

دخل رامبو عالم الشعر . وهو في الخامسة عشرة من عمره . ثم طلقه . ولما يغادر التاسعة عشرة ، وهو في هذا المدى القصير أبدع قصائد غريبة النكهة ، لم تكن معروفة لأحد يومذاك. تشف عن الحنين إلى الحرية تتموج فيها روح قلقة وثابة . لا تعرف الأستقرار قلب يتمرد على الأوضاع السائدة ، أبدع صوراً خارجة على المألوف وخلق رؤى جديدة . حتى يتمكن من الشعر ينبغي أن يضع في حواسه خللاً بعيداً حتى يظفر بغير المرئي من الأشياء والغريب من العوالم والمثير من الألوان .

أنني الأن أتخيل رامبو عندما كان يتعاطى التجارة في الحبشة تثيره شهوة بريق الذهب . كيف قابل شهرته التي ضجت أصداؤها في باريس بذلك البرود . بتلك اللامبالاة نشر (فرلين) كتابه (الشعراء الملعونون ) وتحدث فيه عن رامبو وعن مذهبه الشعري فتعرف الشباب عليه . فدوت شهرته في كل مكان ولكنه يقابل كل هذا في منتهى البرود . أني أعجب من صدق هذا الإنسان . فعندما هجر الشعر كان هجره أياه نهائياً ، فليس ثمة أي أغراء يغريه بالرجوع إلى عالم الكتابة المقترن بطفولته ومراهقته ما الذي كان يصبو إليه رامبو من وراء الكتابة ؟ إلى خلق عالم جديد . إلى أبداع حياة جديدة ، وعندما لم يتحقق له شيء من ذلك مزق بيارق الشعر ثم لوح له بمنديله وألقى نفسه في رحلة طويلة لم يعد منها ألا أشلاء أنسان . طوت أعماقه ذلك السر . سر هذا السكوت الرهيب عن الأبداع وقول الشعر بعد أن تفتحت أزهار عبقريته في هذا العمر المبكر ولكنه يدوس على كل هذه الأزهار ويتخلى عنها أليس هو القائل (( لقد عثرت على المفتاح وتفردت به وحدي )) .

لقد تحدثت عنه الكتب والمجلات والصحف العربية طويلاً ولو جمعنا هذه المواد عن رامبو من بطون هذه الأوراق لتجمعت لدينا مادة غريزة عن حياته ورحلاته وأشعاره حتى أن قصيدته الواحدة تعددت ترجمتها هنا وهناك والذي يهمني أن أتعرض لثلاثة كتب وضعت في العربية عن رامبو :

(1) رامبو – قصة شاعر متشرد . تأليف صدقي إسماعيل المطبوع في سلسلة كتاب الهلال في القاهرة شهر أيلول 1969 وفي حدود علمي أن هذه الطبعة هي الطبعة الثانية للكتاب .

(2) رامبو – تأليف سمير الحاج شاهين – سلسلة أعلام الفكر العالمي والمطبوع في بيروت شهر تموز 1977 .

(3) رامبو – حياته وشعره – خليل الخوري بغداد 1978 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:15

يعتبر كتاب الأستاذ صدقي إسماعيل أول كتاب وضع عن الشاعر في العربية وثمة كتاب كثيرون سجلوا أعجابهم بهذا الكتاب . من بينهم رجاء النقاش ومن البواعث التي دفعت إسماعيل إلى وضع هذا الكتاب ما يذكره في المقدمة أن هناك نماذج أعطت وجودها كلها لقضية العصر الذي عاشت فيها وكذلك عملت من أجل دفع الحضارة إلى الأمام وهذه الناحية من حياتهم جديرة بأن تجعلهم موضع أهتمام كبير لنا نحن العرب . في وقت يبدأ فيه شعبنا أولى خطواته في طريق نهضة علمية كبيرة يقدر لها أن تعيد للأنسانية فتوتها وعنفوانها بعد أن أنهك قواها الغرب كما أن أعتماد هذه النهضة المتحفزة على وعي الأفراد ويقظة ضمائرهم وصدق تجاربهم في ظروف أجتماعية دخيلة نعاني وطأتها لما يزيد في قيمة التعرض لمثل هذه النماذج الثائرة .

قسم الكاتب كتابه إلى قسمين : فتحدث في قسمه الأول عن رامبو الشاعر ثم قسم هذا إلى عنوانين رئيسين تتخللهما عناوين صغيرة شاعرية ، القسم الثاني، رامبو المغامر وهو بدوره مقسم إلى عنوانين كبيرين .

1- في اثر المجهول

2- العودة ، تتخللهما عناوين صغيرة وكل عنوان يمهد له الكاتب بأقوال أو أبيات أو مقتطفات من رسائل رامبو وكذلك ثمة مقاطع لفرلين ، وبودلير وهذه المقاطع تتسم بالتوتر والشاعرية والأشراق وهي في رأيي خير مدخل إلى ما يرمي إليه الكاتب وهو نفس الشيء الذي سنلاحظه عند سمير الحاج شاهين في كتابه ( رامبو )

يمتاز أسلوب صدقي إسماعيل في تأليف هذا الكتاب بالعذوبة والجمال وربما يكتسب فرادته من هذا الإشراق الذي يتسرب من خلال سطور الكتاب وكأن الكاتب عرف أن رامبو وروحه القلقة لا يفهم ألا من خلال أسلوب يوحي للقارئ بالتوتر والجمل القصيرة ولكن المتصفة بالرقة ، أن أدب رامبو صعب وأن حياته أصعب وأخصب . حياة الطفل الذي أحب أن يكون أبناً للشمس فمن الصعوبة بمكان الأحاطة بأدبه وحياته وخاصة عندما خلق تياراً جديداً في الشعر الفرنسي ، فالكاتب أحاط لنا بكل هذا في تقسيمه الكتاب إلى رامبو شاعراً . وإلى رامبو مغامراً وحتى القصائد والقطع النثرية التي ترجمها أحتفظت بطابعها ورموزها وغموضها لأننا نعرف أن الترجمة تسقط الكثير من جمال النصوص المنقولة أن لم تكن يد المترجم بارعة .

ثمة مأخذان بسيطان يؤخذان على الكتاب فالأول هو أن الكاتب عندما أشار إلى المصادر التي أستقى منها مادته عن حياة رامبو ومغامراته وكذلك القصائد التي ترجمها ، أقول أشار إليها إشارة سريعة في المقدمة والأولى ، أنها كانت تذكر في الهوامش ، وكذلك تبوب في خاتمة الكتاب . والمأخذ الثاني أن كل الأشعار التي ترجمها أو القطع النثرية ليست كاملة بل موزعة هنا وهناك بين العناوين وكم كان يبدو رائعاً لو ترجم بعض الأعمال الأولى للشاعر ثم قطعاً من (الأشراقات ) وبعض الصحائف من ( فصل في الجحيم ) وألحقها في خاتمة الكتاب فعنذاك كان القارئ يحصل متعة نادرة من مطالعة هذه النصوص البحتة . ويكشف ما فيها من جمال ودهشة وأشراق ولم يكن يلهث وراء المقاطع المترجمة الموزعة خلال سياق الحديث.

أن المتصفح لكتاب سمير الحاج شاهين ، يجد أستطرادات تدفعه إلى الضياع والتعب ، فقد قسم سمير كتابه إلى ثمانية فصول حيث حمل الفصل الأول عنوان طفولة وكانت خاتمة الكتاب نصوصاً مترجمة من رسائل وأشعار الشاعر الأمر الذي لم نجده في كتاب ( قصة شاعر متشرد ) ، وعين التقليد نجده في كتاب سمير حيث يمهد لفصوله بمقتطفات من أقوال شعراء وكتاب مختلفين وهي بمثابة أجراس صغيرة تمهد بدقاتها لدخول القارئ إلى صالات المواضيع . ففي فصل ( طفولة ) يحاول الكاتب أخبارنا بأن الشاعر عشق طفولته وأراد المحافظة على حالته الطفولية المدهشة وكذلك فأن الشاعر أنجز كل أنتاجه وهو لم يكد يبلغ سن الرشد فلهذا أراد الشاعر أن تستمر هذه الطفولة ، أطول فترة ممكنة وعندما استيقظ في أحد الأيام ولم يجد هذه الطفولة سرعان ما ذوت أزهار شعره ، يسوق لنا قول الناقدة أميلي نوليه في هذا الصدد أن كل مجهوده يتلخص في تمديد زمن الطفولة المطلق ، الحيوي )) وكذلك يحاول سمير أن يعلل سبب سكوت الشاعر (( أن عبقرية رامبو مرتبطة بطفولته التي ما أن أجتاز عبثها حتى ماتت شاعريته ، أن رامبو لم يهجر الشعر ، أن الشعر هو الذي هجره )) وهنا يسوق الكاتب قول سوزان برنار (( لأن المراهق الذي أراد أن يخلق عالماً جديداً بفضل سحر الكلمة الشعرية قد بلغ الان طور الرجال ، كل البشر شعراء تقريباً عندما يكونون أطفالاً ، ولكن قليلون هم الذين تعيش فيهم المقدرة العجيبة على أعادة خلق الواقع بعد سن العاشرة ، عند رامبو أيضاً الينبوع نضب معينه ذات يوم )) يحمل الفصل الخامس من الكتاب عنوان ( الأبدية المستعادة )) وهنا الكاتب يلح ويستطرد كثيراً على عشق رامبو الطفولة والطبيعة (( لقد رفض رامبو كل معطيات الحياة ما عدا أمرين الطفولة والطبيعة )) وهو من أجمل فصول الكتاب حيث يقدم للقارئ متعة حقيقية فرامبو كم كان يعصف به الحنين إلى الأنطلاق نحو الأراضي البعيدة عندما كان الثلج يغطي كل شيء، ويحيطه فرح غامر حيث الشمس والربيع والأزهار وليست بي حاجة إلى تلخيص هذا الفصل وأنما أعرض على القارئ أن يعود إليه بنفسه ويكتشف عن ولع رامبو الصوفي بالطبيعة ومن السهولة أكتشاف هذا الولع وهو منثور بين ثنايا (أشراقات ) أو ( فصل في الجحيم ) وقصائده الأخرى .

يخلو كتاب سمير عن ذكر أسماء المصادر التي ساق منها آراء الكتاب والنقاد التي أستدل بها في فصوله المختلفة وكذلك غفل عن أية أشارة إلى طبعات كتب رامبو نفسها والتي عرب منها النصوص الشعرية وعين الشيء سيلاحظ على كتاب الشاعر خليل الخوري : رامبو ، حياته وشعره .

تعددت الآراء في رامبو ، فبعضهم أعتبره رجلاً يأتي بالأقوال الغريبة ويتصنع الشذوذ في أفعاله . وآخرون أعتبروه شاعراً صاحب لطافات ملهمة . وساحراً يملك قشعريرة النبوة . وكأني بهم أستمدوا هذا الرأي من رامبو نفسه (( لم أكن أنا الذي يكتب بل كان يُملْى علىّ )) فالشاعر خليل الخوري في كتابه عن رامبو يدافع بحرارة عن شخصية الشاعر ويدفع عنها كل ما ألتصق بها من تفاهات وأعمال حمقاء ، أو كل تلك الأشياء التي كانت تصدر من الشاعر سواء من افعاله أو أقواله أخطأ بعضهم في فهمها ، كان يحس أنه شقيق البؤساء ، وواقعياً أهناك رجل حمل على منكبه جميع عذابات العالم أكثر مما فعل عديم الشفقة رامبو .

فأذن يملك رامبو نفساً كبيرة . بالرغم أنه كانت هناك حماقات أقترفها بين الحين والأخر ، ثم ينتقل خليل الخوري في مقدمة الكتاب التي تستمر إلى الصفحة السادسة والأربعين إلى الحديث عن نظرية رامبو الرائي أو البصير لأكتشاف الأشياء التي تكمن وراء الظواهر وبالأخص محاولته في أبداع لغة فرنسية جديدة مترعة بالرؤى متصفة بلونها وطعمها الجديدين وهذا مالاً يتأتى للمرء ألا بعد أن يزرع خللاً في حواسه العادية .فالشاعر عند رامبو هو ذلك الأنسان الذي رأى وحتى يؤدي (( الشاعر رسالته فهو بحاجة إلى تثقيف روحه وهذه الثقافة – تتطلب عملية طويلة عريضة ومفكراً بها كثيراً لإحداث الأحتلال في الحواس كلها )) .

وبعد المقدمة هناك جدول تاريخي مفصل يتضمن في سطوره حياة الشاعر وهي صفحات تثري معرفة القارئ . ولكن الشيء المشرق في عمل خليل الخوري أنه بالإضافة إلى ترجمة القصائد المختلفة للشاعر من ( المشدوهين ) الراقد في الوادي ( المركب السكران ) وقصائد كثيرة أخرى ، قدم ترجمة كاملة ولأول مرة في العربية لـ ( صحارى الحب ) و ( فصل في الحجيم ) و ( الأشراقات ) مع مقدمتين وافيتين لهذين العملين الأخيرين . شرح فيهما الظروف التي أحاطت أنجازهما وكذلك أراد أن يقرب للقارئ التواريخ المضبوطة التي تمت فيها كتابة العملين ولا يسع المرء ألا أن يثني على جهود الشاعر خليل الخوري في تقديم هذا الكتاب إلى القارئ العربي وخاصة أذا عرفنا صعوبة أدب رامبو الملئ بالرموز والرؤى الغريبة واللغة الثرة المتبرعمة فتوة وعنفواناً وما يقابل المعرب في ذلك من صعوبات ومخاطر .

انني متيقن من أن المطابع سوف تُحبرُ صفحات كثاراً . متحدثة عن رامبو في الأيام القادمة . وأنه سينال إهتماماً أكثر من لدن كتابنا وقرائنا . لأن شاعراً وأنساناً كرامبو لا يمكن أن تطويه غياهب النسيان . بل على نقيض ذلك سيزيد لمعاناً وشهرة . لأنه وهبنا أدباً غنياً وحياة حافلة وتجارب ملأى بالصدق والنماء.




سركون بولص في إضمامةٍ من قصائده القديمة





صَدم الموت الفجائعي للشاعر الكركوكي الحميم (( سركون بولص )) قلوبنا لأننا نعلم نحن صحبه وقراءه انه لم يكمل المشوار الذي حلم به لأنه كان يحمل الكثير من النصوص التي لم يكتبها بعد وكنا نحن بأنتظار تلك الأوراق التي كعادتها تحمل الأبهار والأدهاش وأنهاراً من الأسئلة الدافقة ، سركون هذا الشاعر الجوّاب والسارد والجوّال قضى أعوامه الأخيرة متنقلاً بين (( سان فرانسيسكو )) و (( برلين )) و (( لندن )) حاملاً فانوسه وعابراً اقاليم خوفهِ وأسيجة أحزانه في مركب نوح بحثاً عن الأزهار الفريدة في ضوْعِها والغريبة في لونها المبتل في أمطار (( كركوك )) والمسنبل في أقاحي نيران (( بابا كركر )) الأزلية .

قدم (( سركون )) إلى كركوك عام 1956 وتتلمذ في مدارسها وأبصرته أول مرة في اعداديتها العتيدة كان يسبقني عاماً دراسياً جسده النحيل وشعره الفاحم غدوا مَعْلمين أليفين عندي ، ومع مصادقتي لوجوه الصحب الذين عرفوا فيما بعد بـ (( جماعة كركوك ) (( سركون )) زهرة الجماعة – يأتي إلينا دائماً ممتطياً دراجته الهوائية وهو يهبط من بيتهِ المستلقي على مرتفعات (( تبة )) شمالي المدينة / جيوبه ملأى بأوراقه التي حبرّها : قصائد ، قصص ، مترجمات ، وصديقنا رسام وقد أطلعنا على العديد من لوحاتهِ وكثيراً ما كان يدفع لي قصائده أقرؤها بصوتي ، يطرب ويخبر بقية الأصحاب بتلذذه بذلك ، في هذا الوقت بدأت نتاجات (( سركون ) تظهر على صفحات مجلة (( العاملون في النفط )) وصحف بغدادية أخرى ، وفي وقت قريب تخطت كتاباته العاصمة (( بغداد )) وعبرت الحدود وطفقت تظهر في (( بيروت )) في مجلتي : (( الأداب )) و ((شعر )) وخاصة المجلة الأخيرة فتحت صفحاتها لأستقبال هذه الموهبة الثرة وجعل أسمه يترسخ في خريطة الأدب يقيم عوالمه الشعرية ويغتصب الأيام الهاربة بكلماته المجنحة .

يقول الشاعر في قصيدته الموسومة (( آلام بودلير وصلت )) المنشورة في مجلة (( شعر )) العدد / 41 السنة الحادية عشرة شتاء / 1969

ماذا أفعل بحياتي ؟

هنالك باخره ضائعة ترعى بين أحشائي

وأصادف ذات يوم ملابس بودلير الداخلية في طريقي

كيف وصلت ‘إلى بيروت ؟

الام بودلير وصلت عن طريق البحر

وكذلك "سركون" ركب غيمة غضبه وعبر الحدود العراقية الى بلاد الشام ومنها هبط بيروت وهناك أُحتفيَ به من قبل مجلة ((شعر )) وفي مقدمتهم الشاعر (( يوسف الخال )) الذي عاد ((سركون)) وأهدى إليه مجموعته الخامسة (( إذا كنت نائماً في مركب نوح)) إلى يوسف الخال (( الأب )) في ذكراه الدائمة ولم يطل به المقام بلبنان إذ تركه إلى الولايات المتحدة عام 1969 واستقر في سان فرانسيسكو )) .

قصائد (( سركون )) حملت نكهة جديدة وكأنها قادمة من جزر الكلمات البعيدة وقد أغتسلت بضوء النجوم وهي مبتلة بأسئلتها الدافقة التي تكشف عن ذلك المبحر في نهر الحياة الغامر إنه يجذف ويجذف للوصول إلى مدينة (( أين )) وقد ألتقت في قصائده ثقافتان, الثقافة العربية وقد طعّمها بقراءاته العميقة في الأدب الأنكليزي ثم أضاف إليها خلفيته المسيحية التي أصطبغت بثقافة كركوك الأثنية التي تعيش فيها عدة قوميات متآخية من هذا المَصْهر خرجت قصائده لتحرث في أرض جديدة وتنبت فواكهها الغريبة والمدهشة وهو شاعر المجازات المانعة التي تسيل بين يديه ، يقول في احدى قصائده (( تاريخ حياة مفتوحة))

ماضٍ وسكين تريد الأرتجاف

في شرق أعصابي ، في مرتفعات ضجري

ماضٍ من النثرِ ، من السير

هناك في وعاء المطر

إنه ينحت اشراقاته الشعرية بأصابعه النحيلة ، ولكن المقتدرة ويجعلها تضيء دواخلنا لأنها تكشف أعماقنا ، حنيننا ، توقنا إلى معرفة المجهول والأبحار في تيهِ الأنسان الذي يضرب قوارع الطرقات تحت أمطار الشتاء نحو أية زاوية حسنة الأضاءة .

أية أنواءٍ هناك

تسحب الأجناسَ نحوَ

هوّةِ النوم ، إضاءة ، ظلام

ليل على النهود والأطفالِ والزنوج

مناهج الريح المقوسة

ترمم الألسنة المهجورة

الشهور

منافذ ، باب ، هناك ، لم يعد

انه حلم الأنسان الشاعر ، الجوّال في أن ينفتح البابُ ليبصرَ ما لا يبصر ويعانق ما لم يعانق ، وهكاذ حَلق (( سركون )) من كركوك إلى بغداد ومنها إلى بيروت ثم عانق العالم الجديد وأقامَ فترة في (( سان فرانسيسكو )) ثم عادَ إلى أوربا وبالتحديد إلى (( برلين )) ليكون قرب أصدقائهِ من جماعة كركوك ، فاضل العزاوي ومؤيد الراوي ، إلا أن المرض لم يرحم جسده فتوقف قلبه صباح أحد الأيام في مشفى من مشافي العاصمة الألمانية .

يقول عنه الشاعر اللبناني (( عباس بيضون )) : (( هو أقرب الشعراء إليّ والحق أنني ما إن قرأت قصائده في (( مواقف )) حتى ذهلت كانت هذه واحدة من اللحظات التي نشعر فيها بشرارة الشعر تخترقنا )) هذهِ الشهادة التي جاءت بكل صدقٍ في حق (( سركون )) تضاف إلى عشرات الكلمات التي كتبت في تأبينه في مديح هذا الأنسان الذي ترفع عن التوافهِ وسكن شعره حيث جعله وطنه البديل وبحث عن الأنهار التي تقوده إلى الضفاف البعيدة ليأتي لنا بقصائده المحملة ببروقها وأمطارها وهي عزاؤنا برحيله الذي صَدمنا وصدم القلوب التي أحبته ، وهنا أضمامة من قصائده القديمة ، أرسلها من بغداد إلى بيروت وقد ظهرت على صفحات مجلة (( شعر )) البيروتية العدد 36 خريف 1967.



1- (( الغيوم في الجسد ))



يرى سياج الصبر ، الخوفُ

نبيذ في زجاجة الجسد

يرى وتنحني الغيوم في الجسد

العشب يخفي أثر الكحول

وبصمات الليل والذي يرى

يتابع القوس الوحيد

مملكة الزبدْ

يتابع الجرح الذي يعزف في الجسد

والمرض المحاط بالطيور

بالملح والنشيد.



2-(( مدخل ))



تمهيدُ هذا المدخل المليء

بالأوراق

بالسنوات المجهضة

ثم العبور نحو هذا البيت

نحو يدين نامتا في نافذة

نحو فم مبتهل

يجرفه نحو حقول الدمع جفن امرأه

ثم العبور للجموع والخروج

للطرقِ المخفاةِ في صيحة ذئب

في ثلوج النوم في موتِ الزنوج

الطرقات المخفاةِ في السرير

في خريطة الخوف . وهل أجدها

قبل احتضار العازر الأخير



3-(( فنار ))



لا لست أعني جسداً

أربطة بشهوتي

أخفضه ، أرفعه

أجره بين فنارات الحقول

أعني يديكِ أنتِ

أو

أعني وقوفكِ خلال موجتي

تمشطين غضبي وترفعين لي فم الطبيعة



4- (( ذاكرة في حدود الماء ))



البحر ينفي نفسه وينتهي بمهلْ

ويبدلُ الموتَ بلون

مغرم الأيدي بتجويف الصباح

عاشقاً ومقفراً . وربما

جاءت إلى مياهه الخضر فتاة

واستسلمت ) .

البحر ينتهي بمهل

والليل لا يتقذ من شيء

ولكن له الثبات

دون أنحناءٍ ، حركاته

أحتفال بالسرير

والموت سهل

باب ، وعين تلتقي هادئةً

لبحرها

والبحر يبدأ

وينتهي بمهلْ .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:19

عود إلى ظاهرتي الشابي وجبران
لقي أدب جبران والشابي من لدن القراء العرب كل الرعاية والترحاب ، ومنذ البدء احتل ( جبران ) مساحات واسعة في خريطة الأدب العربي ، حيث كثر الحديث عن ( النبي ) لجبران وجبران ( المتصوف ) وجبران الثائر ، ودويه ما فتى قائماً يفرض ديمومته على الكثير من صورنا ومظاهرنا الأدبية ، ومن جهة أخرى صادف مجايل جبران الشاعر الشابي هوى عارماً عند كتابنا ونقادنا فأصبح بحاله ظاهرة أدبية ، فقد أثيرت حول شاعريته وشخصيته ضجة كبيرة وبلغت هذه الضجة ذروتها في الستينات حيث ألفت عن الشاعر الكتب الكثار وعبرت عنه الصفحات الجمة بالرغم من العمر القصير الذي عاشه شاعرنا ، ألا أن آثاره وشخصيته كانت تبدو أكثر خصوبة وزخماً وكثافة ، وهكذا أطلق عليه النقاد لقب شاعر الحب والثورة وأعطى لقب الشاعر الغريد ، ومنهم من كتب عنه (( الشابي شاعر الشعب والحرية ، شاعر الحياة والخلود )) ولكن الملفت للنظر أن الظاهرة الشابية طفقت تخفت في السنين الأخيرة ، فهل تبخر هوى القراء له ؟ وهل نأى الكتاب والأدباء عنه ؟ بينما يلاحظ أن ( جبران ) يتألق يوماً بعد يوم ، وأن كتاباته ورؤاه تتوهج فالمحاضرات تلقى عنه ، والأحتفالات تقام احياء لذكراه ، وتطرح وجهات نظر جديدة عنه ويقارن بالشاعر الأنكليزي (وليم بليك ) ويكتب عن علاقته وصداقته مع النحات ( رودان)وأتصاله به أثناء دراسته في حاضرة فرنسا .
لماذا هذا الأنصراف عن الشابي ؟ بينما الأقلام تعانق جبران والمقالات تتعاقب في أطراء أدبه وفنه ولوحاته ورؤاه وتأملاته في الفن والحياة .
ثمة أكثر من وشيجة تجمع بين جبران والشابي ، فالأثنان برزا في الربع الأول من قرننا الراهن ، فجبران عانق الأبدية في عام 1931 وبعده بثلاث سنوات طوى الشابي أشرعته ومضى في رحلة الخلود ، والأثنان أنتميا أيضاً تحت لواء الشعر الرومانسي، هذا الضرب من الشعر الذي أستهوى شعراءنا في العشرينات والثلاثينيات وبهذا الصدد يقول رجاء النقاش (( أن جبران والشابي كانا علامة من علامات الثورة الرومانسية في الوطن العربي بل كانا من أبرز طلائع هذه الثورة والمعبرين عنها والذين دفعوا ثمنها بشجاعة الأبطال الذين يدخلون معركة يؤمنون بها كل الأيمان )) ومن طرف أخر وجد الشابي نفسه في جبران رفيق روحه وقال في رثائه حقاً لقد كان جبران رسول الحق والحب والجمال )) ولا أريد الأستطراد في الحديث عن كل هذه الجوانب التي جمعت بين جبران والشابي ، فهناك أكثر من كتاب وأكثر من مقال يتحدث في هذا المجال إلا أن الشيء الذي يفرض نفسه لماذا هذا الأنكماش إزاء الظاهرة الشابية ؟ وما السر في هذا الخفوت في دوائر الضجة التي أثيرت حول شاعرية الشابي ، بينما ما زال جبران الفنان المتألق والكاتب المتوهج ، هل يكمن السر في كون الشابي أحادي الموهبة وفي مقابله تبرز مواهب جبران المتعددة ، بالإضافة إلى الشعر الميدان الوحيد الذي بز فيه الشابي فأن جبران كتب القصص وقدم المسرحيات ولونت ريشته العديد من اللوحات وبعد ذلك ترك حزماً من الآراء والتأملات الشاعرية الجميلة في بطون كتبه ولا ننسى أنه كان أزدواجي اللغة فقد كتب باللغتين العربية والأنكليزية ولعل كتابه المشهور ( النبي ) الموضوع بالأنكليزية أشهر من أن نعيد الحديث عنه فهذا الكتاب حتى الأن يقرأ بشغف في الأمريكتين ، ثم فوق هذا أشتهر كرسام تاركاً الكثير من اللوحات الفنية الناحجة ، والملاحظ أن الشابي تفوق على شقيق روحه في الشاعرية وأسلوبه الشعري المتين ، لقد كان كلاهما يؤمن بالكثير من الأفكار التي تدعو إلى النهوض والحركة ونبذ الكسل والخمول وأحترام المرأة والنهوض بها وحب الطبيعة والألتحاء إلى أحضانها ، إلا أن الشابي صاغ كل هذه الأفكار في قصائد تسيل قوة وجمالاً وعذوبة وأذا كان جبران يجسد في بعض كتاباته لغة نبوية عالية وهو في كل هذا متأثر بأقوال الرسل والأنبياء والتي نعتقد أنها تحمل أصداء كثيرة لمطالعاته في الأسفار الدينية وتربيته الشرقية ، ونجد نفس الشيء عند الشابي فالعديد من قصائده تحمل أنفاس هذه اللغة المشرقة المتجلية السامية .
أن الشهرة المدوية التي أحاطت بالشابي والضجة التي اثيرت حول شاعريته تعود بالدرجة الأولى إلى كونه أبدع شاعر ينجبه المغرب العربي في تاريخه الحديث ، ولكونه الصوت الأجمل والصوت الأعذب بين مجموعة الأصوات الشعرية المتحجرة والمحافظة التي زاملته في القطر التونسي الشقيق إبان العقدين الثالث والرابع من قرننا الراهن ، وهو بالتالي من الأصوات التونسية النادرة التي أخترقت تخومها الأقليمية لتبلغ كل أرجاء الوطن العربي .
لقد كتب الدكتور الشاعر ( أحمد زكي أبو شادي ) عن الشابي (( أننا لمشغوفون فخورون بتدريس شعر الشابي وأدبه وبالتحدث عن سيرته الزكية ولن نمل ذلك ، ونعتقد أن قراء العربية لن يملوا من قراءة ما كتب وما سيكتب عنه ولو تعددت التراجم والدراسات )) . وكتب عنه في الخمسينات الكاتب التونسي ( أبو القاسم محمد كرو ) حيث أطلق عليه ( شاعر جبار ) ثم قارنه بالشاعر ( ابن هانيء ) (( ان تونس الخضراء لم تعرف في تاريخها الأدبي شاعراً يقف بحق بين الشعراء الكبار ويحتل مكانةٍ ساميةً في عالم الخلود بعد شاعرنا ابن هانيء إلا أن الشابي ذلك الشاب الجسور الذي تحدى كل الأوضاع الفاسدة والجبروت والطغيان ، وهو لما يبلغ العشرين من عمره )) .
في السنين الأخيرة ظل جبران خليل جبران أكثر تألقاً من أبي القاسم الشابي وهذا يعود كما أسلفنا إلى أثاره العديدة ومواهبه المتنوعة وجاءت رسالته الأدبية أكثر شمولاً ونضوجاً ، وهو بالتالي سيظل يستهوي القراء ويجذبهم الى كتاباته وتاملاته ويبقى عبقرية معطاء تعبق بتاريخ فاغم يترسخ يوماً بعد يوم صاحب مدرسة متميزة في الأدب العربي حيث ( توحد بين الفن والحياة في اطار من الرمزية والخيال والعاطفة ) ونعتقد أن الكتابات سوف تتوالى عنه وستجد الأجيال الناشئة في أدبه وآثاره الثراء والغنى والسمو وتعشق الأغتراف من مثله وفضائله .
صالونات أدبية / فضاءات شعرية
في العقود الأولى من القرن الفارط تألقت الكاتبة ( مي زيادة ) وتألق معها صالونها الأدبي حيث كان يرتاده العديد من رجالات الفكر والسياسة ، وكان ينعقد كل ثلاثاء ، يسرع إليه الأدباء متزاحمين في تنافس شريف للتقرب منها ونيل ودها وأسماعها قطوفاً من أجناء حدائقهم ، تجد في هذا الصالون عباس محمود العقاد ، مصطفى صادق الرافعي ، طه حسين ، إسماعيل صبري، سلامة موسى وآخرين حققوا لأقلامهم الشيء الكثير من الشهرة والنجومية ، فهو شيء بهي وجميل أن تجد امرأة في تلك العقود تملك هذا الحماس وهذه الجرأة أن تكون صاحبة صالون يتوافد عليه كل هؤلاء المشاهير .
كانت ( مي ) رحمها الله وحيدة أبويها وهي على سعة من الثراء ووفرة من الغنى ، جميلة ذات عينين آسرتين تجيد العزف على آلة العود ، وتتقن العديد من اللغات الأجنبية ، تبدع الكتابة في بعض منها وهي أيضاً كاتبة مقالات أدبية من طراز فريد وهي أستاذة لا يشق لها غبار في تدبيج المقالات الذاتية ، كل هذه العوامل لعب في أن يمنحها الكثير من البريق والتوهج والنجومية ، حتى أن أديباً مثل (( جبران خليل جبران )) صوته يعبر الأوقيانوس البعيد ليصلها على شكل خطابات كلها بوح وشوق ومودة ، لقد كان توهج (مي) مفرحاً ماتعاً ولكن أفولها ومرضها كان آلم وأبكى .
لم تكن صاحبتنا (( مي )) هي الوحيدة التي أشتهرت كصاحبة صالون في شرقنا العربي ، يبدو أن نساء مجايلات لـ (مي ) ملكن صالونات أدبية في بلاد الشام ولكن مجالسهن لم يكتب لها النجاح ولم يتحقق لها شيء من الذيوع والأنتشار ، ولعل ظاهرة الصالونات الأدبية ليست بقاصرة على نهضتنا الأدبية الحديثة فقد عرفت لبعض النساء مجالسهن الأدبية كـ ( سكينة بنت الحسين ) في العصر الأموي ومثل ( ولادة بنت المستكفي ) في بلاد الأندلس ، وها هي الأديبة الشاعرة الأردنية ( مريم الصفار) تحول بيتها في ( عمان ) إلى منتدى أدبي ينضم إليه الكثير من المبدعين في مجالات الشعر والقصة والنقد ، وتفتح منتداها أمام المواهب الشابة لتزهر وتنتشر من هذا الصالون وهي تدعو إلى مجلسها الأدباء العرب الذين يصدف وجودهم في القطر الأردني الشقيق ، وفي السنوات الأخيرة ذاعت شهرة صالون (مريم ) فبدأ العديد من ادباء الأقطار العربية يراسلونها والشيء الجميل ان هذه النصوص بعد أن تتلى أمام الحاضرين تقوم الأديبة (مريم) بتسجيل النقود الموجهة إلى تلكم النصوص صوتياً وترسل الأشرطة إلى أصحابها ولم تكف أديبتنا بهذا الصنيع وأنما جمعت الكثير من النصوص الشعرية التي ألقيت في منتداها في كتاب حمل عنوان ((فضاءات شعرية )) وقد صدر عن دار المقدسية بحلب عام 1999 بالإضافة إلى النصوص الشعرية فهناك مقدمة خطها الدكتور ( محمد جمعة الوحش) معرفاً بصالون (مريم) ثم تلاها تقديم أخر بواسطة صاحبة الصالون نفسها ، تؤرخ لصالونها وكيف بدأت عندها فكرة إقامته ، ثم تعدد اسماء الرواد الذين يفدون إلى منتداها ، وكتاب "فضاءات شعرية" يحتوي على العديد من المواهب الشعرية تتوزع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصائد النثر ، فصالون (مريم ) مشرع الأبواب أمام التجارب الشعرية كلها ناهيك عن الشكل الذي صبْت فيه ديدنها في هذا إزهار الأبداع لتكون ساريته الأعلى والأسمى ، ولا يسع المرء إلا أن يحيى هذه الأديبة الشجاعة وهو بانتظار قدوم كتبها التالية وهي تجمع بين دفتيها القصص والخطرات النقدية التي تلقي في صالونها الأدبي ليحلق ويتوغل الأكثر فالأكثر في فضاءات القص والأبداع والنقد .
(( مي زيادة )) والضجة المثارة حولها

في عام 1941 ودعت الأنسة مي زيادة عالمها وسط تلك الظروف الصعبة القاسية التي أكتنفت أيامها الأخيرة ، وما زالت الكتابات عنها تتوالى وتتعاقب ، الفت الكتب الكثيرة عنها ودبجت عشرات المقالات حول أدبها وشخصيتها ومنتداها وعلاقاتها بكبار رجالات الفكر والأدب في زمانها ، أننا لو حاولنا جمع هذه الكتابات المتعددة عنها والمقالات الجمة التي تناولت جوانب من شخصيتها لاستطعنا أن نؤلف منها مجلدات ضخمة ، أن هذه التآليف تضع المرء إزاء ظاهرة أدبية وهي ظاهرة الكتابة عن مي زيادة ، هذه الظاهرة التي برزت على أشدها في السنوات الأخيرة حيث وضع فاروق سعد كتاباُ أنيقاً في أخراجه وطباعته ووسمه بـ ( باقات من حدائق مي ) وألف الدكتور عبد اللطيف شراره كتاباً عن حياتها وأدبها تحت عنوان ( مي زيادة ) وصدر في سلسلة ( ادباؤنا ) عن دار صادر ببيروت .
وأذكر من هذه الكتب كتاب الناقدة روز غريب ( مي زيادة التوهج والأفول ) وثمة كتاب اخر صدر عام 1974 يحمل عنوان ( الشعلة الزرقاء ) حوى رسائل الكاتب المهجري جبران خليل جبران إلى كاتبتنا مي زيادة وهذه الخطابات حققت من قبل سلمى الحفار الكزبري ، وتوطئة الكتاب خصصت عدة صفحات في الحديث عنها والأشادة بشخصيتها حيث جعلت منها الحبيبة الملهمة وشقيقة الروح بالنسبة إلى جبران والشيء المحزن هو فقدان خطاباتها إلى جبران فلو أن هذا الكتاب قد أشتمل من طرفٍ آخر على رسائلها إلى جبران لكان قد تحققت متعة كبيرة للقارئ العربي .وكان فتحاً جديداً في مضمار أدب الرسائل في الأدب العربي والقمين بالذكر أن كاتبتنا قد راسلت العديد من أصحاب الفكر والأدب في الثلث الأول من هذا القرن فبالإضافة إلى جبران فأنها كاتبت أمين الريحاني ، عباس محمود العقاد ، مصطفى صادق الرافعي صاحب ( رسائل الأحزان ) الذي جعل منها عروس غزله العذري وأخرين عددهم يتجاوز الحصر .
إن هذه الكتابات المختلفة التي تناولت أدب مي وشخصيتها وعلاقاتها بنفرٍ من أدباء عصرها تثير لدى القارئ النابه هل أنها تستحق كل هذه الضجة التي أثيرت حولها ؟ وهل هذه الكتابات كلها من سبيل العطف عليها ورد فعل للمعاملة القاسية التي ووجهت بها أثناء مرضها في موطنها الأول ( لبنان ) إلى درجة أنها أدخلت مستشفى الأمراض العصبية في بيروت ، أن هذا الكلام يقود إلى ظاهرة أخرى انتشرت في الستينات . حيث كثر الحديث عن أبي القاسم الشابي وأثيرت ضجة حول شاعريته وموهبته وحياته القصيرة التي شبهت بنجم تألق لكنه سرعان ما أخذ طريقه إلى الأنطفاء وظهرت الكتب والمقالات عنه هنا وهناك ولكن سرعان ما أنحسرت هذه الموجة فهل يا ترى أن ظاهرة مي ستكون كظاهرة الشابي تشتد ثم يسري إليها الوهن أم أن أدب مي وشخصيتها الذكية والمرهفة الأحساس وكهولتها المثيرة للأسى سيفرض نفسه على صفحات جديدة تحبر عنها في الأيام القادمة .
مارست كاتبتنا مختلف الأنواع الأدبية ألقت خطباً ومحاضرات كتبت النقد والبحث ألفت القصص القصيرة . عملت في الصحافة نظمت ديواناً بالفرنسية ( أزاهير حلم ) ثم ترجمت كتباُ عن الفرنسية والألمانية وقيل أنها كانت تجيد العربية وخمساً من اللغات الأوربية والفرنسية ، الأنكليزية ، الألمانية ، الأيطالية ، والأسبانية ) ألا أنها لم تتفوق في هذه المجالات وجاء تفتح مواهبها في عالم كتابه المقالات الوجدانية . هذا النوع الأدبي الذي أينعت حقوله في أرضية الأدب العربي مع مطلع القرن العشرين وهي واحدة من أسرة المقاليين العرب المشهورين الرافعي . جبران ، أحمد حسن الزيات وغيرهم وما علينا ألا أن نرجع إلى كتابها ( ظلمات وأشعة ) لنكتشف في سطوره كاتبة المقالات ذات الأسلوب الرشيق التي تسكب افكارها في نفس قارئها في يسر وسلاسة .
كثرت الأحاديث والأقاويل حول النهاية الفاجعة التي رست عندها مي في أواخر عمرها لقد حصلت نكسة في صحتها وأعصابها فعاشت في عزلة عن الناس ثم كيف أنها أثناء تواجدها في لبنان أدخلت مصحة الأمراض العقلية جوراً .
ولم يقابل مرضها بذلك الفهم الذي لا يؤثر في نفسها المرهفة صاحبة الأحاسيس الرقيقة . فهل صحيح أن وفاة جبران هي التي وجدت في جسدها وروحها تلك الأنتكاسة الصحية ؟ أم أن وفاة والديها وهي التي كانت وحيدتهما جرت عليه هذه السلسلة من المحن وتركتها على حين غرة تواجه الحياة وحيدة منفردة مع مشاكلها ومصاعبها وقال البعض ان انفراط شمل الأصدقاء وتفرقهم دفعها إلى الأنطواء على النفس وعدم الثقة في الناس. وربما كانت هي ذاتها تعاني من أحباطات نفسية تعود إلى تربيتها الدينية زمن طفولتها . ثم أنها كانت تريد التمرد على نفسيتها هذه فيحدث داخلها ذلك التناقض الحاد بين الأنكماش والتفتح وبين الأنحصار والأنطلاق مما كان يسبب ألماً في نفسها وأضطراباً في روحها ولا ننسى ظروف المجتمع الصعبة التي عاشت فيها (مي) أنذاك حيث كانت المرأة تعاني الأحباط إزاء الرجل وهي المرأة المرهفة الشعور وفي هذا الصدد تقول روز غريب في كتابها عن مي صفحة 65 متحدثة عن معاناتها ومقاساتها بضراوة المجتمع و غربة الأنثى في مجتمع يسيطر عليه الذكور ولا يحترم المرأة إلا أذا كان لها من مالها أو منزلة قومها أو مكانة زوجها أو نبوغها وتفوقها ما يلفت إليها النظر)) ومن المحتمل أن هذه الظروف ألهبت غربتها ومهدت الطريق إلى ذلك الأنهيار الذي انتهت إليه "مي" أخيراً .
لم يبق أديب معاصر لها إلا وقد تحدث عنها وأفاض في الكلام عنها وعن أدبها قال صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات (( وهي الأديبة الكاملة في تاريخ الأدب العربي كله)) . وأعجب جبران خليل جبران بعقلها النير الذي ظهر في أدبها ومقالاتها ، وألف الأستاذ محمد عبد الغني حسن كتاباً عنها عنونه بـ ( مي أديبة الشرق والعروبة ) وكانت كاتبتنا أول فتاة عربية دخلت الجامعة المصرية مما دفع الدكتور زكي مبارك الذي زاملها في الجامعة أن يطلق عليها أسم (مدموازيل صهباء ) وطاغور شاعر الهند الكبير أهدى إحدى قصائده الموضوعة بالأنكليزية إلى مي ، وإذا كان الحديث عن مي فلابد من الإشارة إلى ندوتها التي كانت تعقد كل ثلاثاء في دارها والتي كانت ملتقى لرجالات الفكر والثقافة في أيامها وفي مقدمة هؤلاء : أحمد شوقي ، العقاد ، طه حسين ، الرافعي ، خليل مطران وقد يطول ذكر هؤلاء العباقرة الذين كانوا يقبلون على ندواتها والجلوس إلى تلك المائدة الثقافية التي كانت تمدها لهم والجدير بالذكر أم عمر هذه اللقاءات تخطى العشرين عاماً .
عرفت مواهب كثيرة لـ ( مي ) إلا أنها لم تتفوق في أحداها ذلك التفوق الذي يكسبها الفرادة والأمتياز ولكن مع ذلك فإن ما قدمته الكاتبة جدير بالأحترام ، ويبقى نبوغها في المقالات الوجدانية . هذا الضرب من الأدب الذي تبرعم مع ظهور المجلات الأدبية المتخصصة . ولاريب فإن مي في مقالاتها تسحر القارئ وتمنحه دفء الأسلوب المقتدر والأفكار الناضجة، ولكن الشيء الثاني والأهم في رأينا والذي لفت العناية بها هو أنها أقتحمت في وقت مبكر مجتمع الرجال وحظيت بأحترام الجميع لذكائها ، ثم جاء منتداها ليمنحها البعد الأخر في شهرتها وأقبال الكثير من رجال الفكر المعاصرين لها على دارها ولم يقتصر أعجاب هؤلاء بندواتها ، بل حاول البعض منهم أن يكسبوا ودها فتبادلوا معها الخطابات الودية . وكانت تزداد تألقاً يوما وراء يوم وهي محاطة بكل هؤلاء المفكرين والمعجبين ومنذ 1931 تنتكس صحتها ويبدأ نجمها بالأفول وتضطرب أعصابها ثم نجدها منطوية على نفسها معتزلة الصحب ، ويعرف الكل رحيلها إلى موطنها الأول لبنان ، ثم مالاقت هناك من الأهمال واللامبالاة مما أدى إلى أنهيار صحتها أكثر فأكثر . فهذا اللمعان لشخصيتها وهذا التفتح لمواهبها وقدراتها الكتابية ثم هذا الأنطفاء السريع لكل شيء والمأساة التي حلت ساحتها هو الذي حدا بالأدباء أن يكتبوا عنها وتوسعوا في أخبارهم ثم تأويلهم لبعض أخبارها بأنها كانت غراماً متبادلاً بينها وبين معشر رجالات الفكر الذين كانوا يترددون على منزلها وكان هذا خير موضوع تتندر به الصحف طوال سنوات عديدة ( راجع مقالة طاهر الطناحي في مجلة الهلال ، غرام العقاد : بكت مي لأنه أحب سارة ) عدد أيلول سنة 1964 ، إلا أن الكتاب مازالوا لم يقولوا كلامهم الفصل في سبب انهيارها الصحي وربما يستطيعون في السنوات القادمة أن يضيفوا الكثير من جوانب أدبها وشخصيتها بعد أن يزيحوا النقاب عن المزيد من الكتابات المجهولة لها وكذلك عن شطر من خطاباتها التي تبادلتها مع الكثير من المعارف والأدباء ، فهذه الموجة من الكتابات حول مي ستستمر وستحبر عشرات الصفحات عنها ، توسع شهرتها، مثيرة المزيد من الضجة حول أدبها وحياتها .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
طلال النعيمي
المدير العام
المدير العام
طلال النعيمي


ذكر
عدد الرسائل : 1810
العمر : 66
تاريخ التسجيل : 31/12/2006

ذاكرة جرت ميدان Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذاكرة جرت ميدان   ذاكرة جرت ميدان Icon_minitimeالإثنين 29 سبتمبر - 21:20



بطاقة شخصية



· تولد 1946 محلة ( جرت ميدان ) صوب القورية / كركوك .

· تتلمذ في مدرسة القورية الابتدائية ثم مدرسة المنصور الابتدائية المستلقية . في أحضان كاوورباغي .

· الدراسة المتوسطة في المتوسطة الشرقية والدراسة الإعدادية في إعدادية كركوك .

· خريج كلية الآداب / جامعة بغداد / قسم اللغة العربية عام 1967 .

· المكوث عاماً في سلك التدريس / متوسطة إمام قاسم ثم أوفد إلى القطر الجزائري .

· صادق العديد من الشعراء والقصاصين والتشكيليين والمسرحيين إبان العقد الستيني .

· طاف معظم أقطار الشمال الإفريقي وأدمنَ السياحة في أسبانيا وبلاد الجيك .

· جليس مقهى شاكر في انتظار صحبه وانتظار الذي يأتي ولا يأتي .

· ما زال متواصلاً في عالم القراءة والكتابة وينشر كتاباته في صحافة المدينة ودورياتها المختلفة .



من إصدارات (( فاروق مصطفى )) الأدبية



1- قمصان الغيوم المتدلية /مجموعة شعرية 2003

2- أرصفة الدفلى /مجموعة شعرية 2004

3- جماعة كركوك / الأستذكارات الناقصة 2005

4- ولجيد كركوك باقة من أزهار الخباز /ذاكرة المكان 2005

5- طريق الدفلى إلى كركوك /مجموعة شعرية 2006

6- هديل الغمام بين يَدَيْ كركوك/ ذاكرة المكان 2006

7 تسكعات الفقير الكركوكي وأيامه المنهزمة/ ذاكرة المكان 2007

8- بريد كركوك الذاهب عشقاً /مجموعة شعرية 2007

9- الثَمل بعشق كركوك / مقالات 2008

10- قراءات في الأدب القصصي/ مقالات 2008
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shiaatalmosel.yoo7.com
 
ذاكرة جرت ميدان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ذاكرة الموصل الخارقة , عبد الجبارمحمد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
شبكة الموصل الثقافية :: ألأقليات العراقية-
انتقل الى: